باب: ومن سورة آل عمران14
سنن الترمذى
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال: حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، قال: سمعت طلحة بن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا جابر ما لي أراك منكسرا»؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا ودينا، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك»؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: " ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا. فقال: يا عبدي تمن علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون " قال: وأنزلت هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} [آل عمران: 169]. هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، شيئا من هذا، ورواه علي بن عبد الله بن المديني، وغير واحد من كبار أهل الحديث، هكذا عن موسى بن إبراهيم
للشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ مَرتَبةٌ عظيمةٌ، وفضلٌ كبيرٌ عِندَ اللهِ؛ فمَن كُتِبَ له أنْ يموتَ في سَبيلِ اللهِ سبحانَه وتعالَى، فإنَّه ينالُ مَكانةً عاليةً عندَ اللهِ تعالى، ويَكونُ له الجَزاءُ والنَّعيمُ المُقِيمُ يومَ القيامةِ.
وفي هذا الحَديثِ يحكِي جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال له بعَدَما استُشهِدَ أبوه عبدُ اللهِ بنُ حَرامٍ رضِيَ اللهُ عنه: "يا جابِرُ، ما لي أراك"، أي: أُشاهِدُك "مُنكسِرًا؟"، أي: مَهمومًا محزونًا، فقال جابرٌ رَضِي اللهُ عَنه: قلتُ: يا رسولَ اللهِ "استُشهِد أبي"، أي: رزَقه اللهُ الشَّهادةَ "يومَ أحُدٍ"، وهي غَزوةُ أحُدٍ الَّتي كانت بينَ المسلِمين وبينَ المشرِكين عندَ جبَلِ أحُدٍ، وفي هذه الغزوةِ قُتِل مِن المسلمين سَبعون رجُلًا، مِن بَينِهم أبو جابرٍ رَضِي اللهُ عَنهما عبدُ اللهِ بنُ حَرامٍ، قال جابرٌ: "وتَرَك"، أي: خلَّف أبي بعدَ استِشْهادِه "عِيالًا"، وهُنَّ بَناتٌ ممَّن يَحْتَجْن إلى النَّفقةِ عليهِنَّ "ودَينًا"، أي: وترَك دَينًا، فأنا حزينٌ مهمومٌ لذلك، فأخبَره النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بما يُزيلُ همَّه وانكسارَه، ويَسُرُّه، فقال: "أفلا أُبشِّرُك"، أي: أَحمِلُ لك البُشْرَى، بما يَجعَلُك مَسرورًا "بما لَقِي اللهُ"، أي: بما قابَل اللهُ "به أباك؟"، بعدَ استِشْهادِه مِن الجزاءِ والفضلِ والكرامةِ؟ قال جابرٌ: قلتُ: "بلى يا رسولَ اللهِ"، أي: أخبِرْني يا رسولَ اللهِ بما كان جزاءُ أبي، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ما كلَّم اللهُ أحَدًا قطُّ إلَّا مِن وَراءِ حِجابِه"، أي: مِن أفضَلِ ما حدَث مِن فَضائلَ للبَعضِ أنْ كلَّمَهم اللهُ بدونِ واسطةٍ مع وُجودِ الحِجابِ، كما كلَّم موسى، "وأَحْيا أباك"، أي: بعدَ استِشْهادِه ومَوتِه، "فكلَّمه كِفاحًا"، أي: ليس بينَه وبينَ اللهِ حِجابٌ ولا رسولٌ، "فقال" اللهُ: يا عَبْدي، "تَمَنَّ علَيَّ"، أي: اطلُبْ ما تتَمنَّاه "أُعطِك" وأُحقِّقْه لك، فقال عبدُ اللهِ بنُ حَرامٍ والدُ جابرٍ: "يا ربِّ، تُحْييني"، أي: تُعيدُني إلى الحياةِ مرَّةً أخرى، "فأُقتَلُ فيك"، أي: أُقاتِلُ في سَبيلِك، وإعلاءِ كَلِمةِ الدِّين مرَّةً "ثانيةً"، قال الرَّبُّ تبارَك وتعالى: "إنَّه قد سبَق مِنِّي"، أي: سبَق منِّي الحُكْمُ والقَضاءُ "أنَّهم إليها لا يُرجَعون"، أي: مَن مات لا يَرجِعُ إلى الحياةِ الدُّنيا مرَّةً أخرى.
قال جابرٌ رضِيَ اللهُ عنه: "وأُنزِلَت هذه الآيةُ" في شأنِ الشُّهداءِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171]، {وَلَا تَحْسَبَنَّ} أي: لا تَظُنَّنَّ {الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ}، أي: استُشهِدوا في سَبيلِ اللهِ {أَمْوَاتًا} أي: قد فَقَدوا الحياةَ {بَلْ أَحْيَاءٌ}، أي: لهم حياةٌ كما شاء اللهُ {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، أي: قَرببين مِن اللهِ بما نالوه مِن الدَّرَجاتِ العُلْيا والكَرامةِ، {يُرْزَقُونَ}، أي: يَرزُقُهم اللهُ مِن أنواعِ النَّعيمِ.
واستُشكِلَ قولُه: "أحيا أباك"، مع قولِه تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمِ}؛ لأنَّ التَّقديرَ هم أحياءٌ، فكيف يُحْيي الحيَّ؟ والجوابُ؛ قيل: جَعَل اللهُ تعالى تِلكَ الرُّوحَ في جَوفِ طيرٍ خُضْرٍ، فأحيا ذلك الطَّيرَ بتِلْك الرُّوحِ؛ فصَحَّ الإحياءُ، أو أرادَ بالإحياءِ زيادةَ قوَّةِ روحِه، فشاهَدَ الحقَّ بتِلك القوَّةِ.
وفي هذه البُشْرى مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لجابرٍ ما يُثبِّتُ قَلبَه، ويُزيلُ انكِسارَه بعدَ موتِ أبيه، وما ترَك مِن دُيونٍ وبَناتٍ في رَقبةِ جابرٍ؛ لأنَّ اللهَ الَّذي أحيا أباه وكلَّمه كِفاحًا هو الَّذي سيَقْضي دُيونَه ويتَولَّى ذُرِّيَّتَه، وقد ورَدَ في حديث آخَرَ كيفَ قَضَى اللهُ دَينَ والدِ جابرٍ بكرامةٍ منه سُبحانَه.
وفي الحديثِ: إثباتُ صفةِ الكلامِ للهِ تعالى.
وفيه: بيانُ كَرامةِ الشُّهداءِ عِندَ اللهِ، ومَنقَبةٌ جَليلةٌ لعبدِ اللهِ بنِ حرامٍ.