باب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم34-3
سنن الترمذى
حدثنا بشر بن هلال البصري قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن سعيد الجريري، ح وحدثنا هارون بن عبد الله البزاز قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن سعيد الجريري، والمعنى واحد عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسيدي، - وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم - أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما لك يا حنظلة»؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي طرقكم، وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». هذا حديث حسن غريب
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ حَنظلَةُ بنُ الرَّبيعِ الأُسَيديُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قابَلَ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنه في بَعضِ الطُّرُقاتِ، فقال: «كيف أَنتَ يا حَنظلَةُ؟» يَطمَئنُّ على حالِه وخَبرِه، وهي عادةٌ عامَّةٌ وحاضرةٌ بيْنَ الأصحابِ عندَ مُقابَلةِ بعضِهم بعضًا، فأجابَ حَنْظلةُ رَضيَ اللهُ عنه: «نَافَقَ حَنظلةُ»، أي: وقَعَ في النِّفاقِ، وهذا إنكارٌ منه على نَفسِه لَمَّا وَجَد منها في حالِ خَلْوتِها خلافَ ما يَظهَرُ منها بحَضرةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فخاف أنْ يكونَ ذلك مِن أنواعِ النِّفاقِ، فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «سُبْحَانَ اللهِ!» وهي كَلمةٌ تُقالُ أحيانًا عندَ التَّعجُّبِ، وفيها تَنزيهٌ للهِ تَعالَى عن كلِّ ما لا يَليقُ به، ثمَّ راجَعَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه في قولِه واتِّهامِه لنَفسِه بالنِّفاقِ، فأخبَرَه حَنْظلةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه إذا كان عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذكَّرَهم بالنَّارِ والجنَّةِ حتَّى كأنَّهم يَرَونها رأيَ عَينٍ مِن قوَّةِ الإيمانِ، واستِحضارِ القَلبِ، وهو بيانٌ لشِدَّةِ الإيمانِ في هذا الوقتِ، فإذا خَرَج مِن عِندِه عافَسَ الأَزواجَ والأَولادَ أي: لاعَبهُم وانْشغَلَ بِهم، وبالضَّيعاتِ، وهِي مَعاشُ الرَّجلِ مِن مالٍ أو حِرفَةٍ أو صناعةٍ، ونَسِي كَثيرًا مِمَّا ذَكَّرَهم بِه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصار وكَأنَّه لم يَسمَعْ شَيئًا، فقال له أَبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «واللهِ إنَّا لَنلْقَى مِثلَ هَذا»، وهذا إقرارٌ مِن أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه أيضًا يقَعُ فيما أخبَرَ به حَنْظلةُ عن نَفسِه؛ ولذلك ذَهَبا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعرِضانِ عليه أمْرَهما، وهلْ هذا يُعَدُّ مِن النِّفاقِ أمْ لا؟ ولَمَّا أتى حَنْظَلةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذَكَر له مِثلَ ما ذَكَرَ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن أمرِ النِّفاقِ، فأَخبَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هَذا لَيسَ مِنَ النِّفاقِ، وأنَّ اللهَ لم يُكلِّفْهمُ المُداومةَ عَلى تِلكَ الحالِ مِنَ الخَوفِ والخَشيَةِ ودَوامِ الذِّكرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهم وأقسَمَ باللهِ الَّذي نَفسُه بيَدِه، أنَّهم لَو داموا عَلى ما يَكونون بِه عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن صَفاءِ القَلبِ والخَشيَةِ والذِّكرِ لصافَحتْهمُ الملائِكةُ بأيدِيهم وهُم مُضطجِعون عَلى فُرُشِهم وفي طُرُقاتِهم عِيانًا. والمعنى: لو كانت قُلوبُكم تَظَلُّ على ما تكونُ عليه عِندي حِين الذِّكرِ والوعظِ، لَكُنتم أصحابًا للملائكةِ تُلاقُونهم ويُلاقُونكم وتُسلِّمون عليهم ويُسلِّمون عليكم.
ثُمَّ نادَاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باسمِه إِيناسًا لَه وتَبيُّنًا له أنَّه ثابتٌ على الصِّراطِ المُستَقيمِ، فَقال: «ولَكِنْ يا حَنظَلَةُ ساعةً وساعةً» أي: ساعةً في الحُضورِ والذِّكْرِ، وساعةً في مُخالَطةِ الأَولادِ والأَزْواجِ ومُلاعبَتِهم، أو تَستحضِرُ الجنَّةَ والنَّارَ وتَذكُرُ ربَّكَ ساعةً، وتَشتغِلُ بحَوائجِكَ في ساعةٍ أُخرى، فالمطلوبُ أنْ يُباشِرَ الإنسانُ أعمالًا صالحةً ويَجتنِبُ الحرامَ، ولا بأْسَ أنْ يأتيَ مِن المباحاتِ ما يُريدُ، وكَرَّرَ قولَه: «سَاعَةً وسَاعَةً» ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ تَأكيدًا لِتلكَ المعاني ولِيُزيلَ عَنهم ما اتَّهَموا بِه أنفُسَهم مِنَ النِّفاقِ.
وفي الحديثِ: عَدْلُ الشَّريعةِ الإِسلاميَّةِ في إِعطاءِ كُلِّ ذي حقٍّ حقَّه مِنَ النَّفسِ والأَولادِ والزَّوجاتِ بَعدَ حَقِّ اللهِ تَعالَى.
وفيه: التَّعبُّدُ إلى اللهِ بِراحةِ النَّفسِ؛ لأنَّ العَبدَ إذا أَثقَلَ على نَفسِه مَلَّ وتَعِبَ ورُبَّما أضاعَ حُقوقًا كثيرةً.