باب في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه31-2
سنن الترمذى
حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال: حدثنا زيد بن حباب، عن خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت قال: أخبرنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها، فقال: «يا عائشة تعالي فانظري». فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: «أما شبعت، أما شبعت». قالت: فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر، قالت: فارفض الناس عنها: قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر» قالت: فرجعت.: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه»
الإسلامُ دِينُ يُسْرٍ؛ فقدْ رفَعَ اللهُ به الحرَجَ والضِّيقَ والإثْمَ عن النَّاسِ، ووسَّعَ عليهم دونَ تجاوُزٍ.
وفي هذا الحديثِ تقولُ أمُّ المُؤمنينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالِسًا، فسمِعْنا لَغطًا"، أي: صَوتًا شَديدًا لا يُفْهَمُ، "وصَوتَ صِبيانٍ"، أي: يُصاحِبُ هذا الصَّوتَ أصواتُ الصِّبيانِ، "فقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: لينظُرَ ما سبَبُه، "فإذا حبشيَّةٌ"، أي: جاريةٌ أو أمَةٌ سَوداءُ، وحبشيَّةٌ نِسبةٌ إلى بلادِ الحبشةِ، "تَزْفِنُ"، أي: ترقُصُ، "والصِّبيانُ حولها"، أي: ينْظُرون إليها، ولعلَّ الرَّقصَ المُرادُ به ما جاء في رِوايةِ الصَّحيحينِ: "وكان يومَ عيدٍ يلعَبُ السُّودانُ بالدَّرقِ والحِرابِ"، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا عائشةُ، تعالَيْ فانْظُري"، أي: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الَّذي ابتدَأَها ودَعاها لتنظُرَ، "فجِئْتُ فوضَعْتُ لَحْيَيَّ"، واللَّحيُ مَنبتُ الأسنانِ، والمُرادُ به أسفَلُ الوجْهِ والذَّقَنِ، "على مَنْكِبِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، والمنْكِبُ: مُجتمَعُ رأْسِ الكتِفِ والعضُدِ، قالتْ: "فجعلْتُ أنظُرُ إليها ما بين المَنْكِبِ إلى رأسِه"، أي: تنظُرُ إلى الحبشيَّةِ فيما بين مَنْكِبِ ورأْسِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبقيَّةُ جَسدِها خلْفَه، "فقال لي"، أي: بعدَ مُدَّةٍ من المُشاهَدةِ والنَّظرِ، "أمَا شبِعْتِ، أمَا شبِعْتِ"، يُكرِّرها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لتَقضِيَ نَهْمتَها من المُشاهَدةِ، قالت عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "فجعلْتُ أقولُ: لا" فتَكرَّرَ النَّفيُ مع تَكرارِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لها: أشبِعْتِ، "لأنظُرَ مَنْزلتي عندَه"، أي: كان قَصْدي من قَولي: "لا" أنْ أعلَمَ نِهايةَ مَرْتبتي وغايةَ مَحبَّتي عندَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "إذ طلَعَ عمرُ"، أي: بَينَما هي على هذه الحالِ ظهَرَ عمرُ بنُ الخطَّابِ عندَ تلك الحبشيَّةِ، قالت: "فارفَضَّ النَّاسُ عنها"، أي: تَفرَّقَ النَّاسُ المُشاهِدون الَّذين كانوا حولَ الحبشيَّةِ؛ لِمَهابةِ عمرَ والخوفِ من إنكارِه عليهم، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنِّي لأنظُرُ إلى شَياطينِ الجنِّ والإنسِ قد فَرُّوا"، أي: هَرَبوا، "من عُمرَ"؛ لِمَا فيه مِن المهابةِ، ولخَوفِهم مِن إنكارِه عليهم، وهذَا الأمْرُ مَبْنيٌّ عَلى اتِّصافِ النَّبِيِّ صلَّى ُالله عليه وسلَّمَ بصِفةِ الحِلمِ وسَعَةِ الصَّدرِ في الأُمورِ المباحةِ، وأنَّ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنه يتَّصفُ بصفةِ الحَميَّةِ في الدِّينِ، وقد قالَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك باعتَبارِ كَونِ الأمرِ كانَ في صُورةِ اللَّهْو واللَّعبِ المُباحِ، وليس فيه رَقْصٌ مُحرَّمٌ، وإلَّا فكَيفَ أقرَّهُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَترُك أحدًا يَستبيحُ ما لا يجوزُ بحَضرتِه ولا يَنهاهُ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ فرَضَ عليه التبليغَ والبَيانَ؛ وقد بينَّتِ هذه الروايةُ أنَّ النَّاظِرينَ إلى الحَبشِيَّةِ هم الصِّبيانُ وعائشةُ رضِيَ اللهُ عنها تَنْظُرُ معَهم، ولم يكنْ هُناكَ رِجالٌ يَنظُرونَ، وليسَ في الرِّوايةِ تصريحٌ بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَنظرُ إلى رقْصِ الحبشِيَّةِ، وفي رِوايةِ البخاريِّ عن عائشةَ أيضًا، أنَّ أبا بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه "دخَل عليها وعندَها جاريتانِ في أيَّامِ مِنًى تُغنِّيانِ وتُدفِّفانِ وتَضربانِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتغَشٍّ بثَوبِه فانتهرَهُما أبو بكرٍ، فكَشَفَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن وجْهِه، فقال: دَعْهُما يا أبا بَكرٍ؛ فإنَّها أيَّامُ عِيدٍ، وتِلك الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى"؛ فبَيَّنَتْ هذِه الروايةُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإنْ أقرَّهُ وسمِعَه فإنَّه لَم يَنظُرْ إِلى الْمُغنِّيتَينِ. أو لعلَّ هذه المرأةَ الحَبشيَّة كانتْ جاريةً صغيرةً، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد رخَّص في أوقاتِ الأفراحِ- كالأعيادِ والنِّكاحِ- في الضَّربِ بالدُّفوفِ والتغنِّي بالأشعارِ الحَسنةِ وما كان في معناها للجوارِي الصُّغرياتِ .
وقيل: ذِكرُ رَقْصِ المرأةِ الحَبشيَّةِ في هذه الرِّوايةِ شاذٌّ؛ لمُخالفتِه جميعَ الرِّواياتِ الأخرى في الصَّحيحَينِ وغيرِهما، التي فيها أنَّ الرَّاقِصينَ كانوا رِجالًا، ورقْصُ الحَبشةِ حِينئذٍ محمولٌ على اللَّعبِ بالسِّلاحِ ولحِرابِ، وما فيه إعانةٌ على الجِهادِ.قال الترمذي رحمه الله : "سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه واستغربه" انتهى من "علل الترمذي" (ص372)
قالت عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "فرجَعْتُ"، أي: من عندِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى داخلِ بيتي وحُجْرتي، وكان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد أمَرَ عمرَ بترْكِهم في مُتابعةِ اللَّعبِ، كما في الصَّحيحينِ.
وفي الحديثِ: بيانُ عِظَمةِ خُلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وغَلبةِ صِفَةِ الحِلْمِ والجَمالِ عليه.
وفيه: مَشروعيَّةُ اللَّهْوِ المُباحِ كما حدَّدَه الشَّرعُ، وأنَّ في الإسلامِ فُسحةً بما لا يُخِلُّ بثَوابتِ الدِّينِ.
وفيه: مَنقبَةٌ ظاهرةٌ لعُمرَ رضِيَ اللهُ عنه.