باب ما جاء في مهور النساء1
سنن الترمذى
حدثنا الحسن بن علي الخلال قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، وعبد الله بن نافع الصائغ، قالا: أخبرنا مالك بن أنس، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة، فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلا، فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال: «هل عندك من شيء تصدقها؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إزارك، إن أعطيتها جلست، ولا إزار لك، فالتمس شيئا؟» قال: ما أجد، قال: «فالتمس، ولو خاتما من حديد» قال: فالتمس، فلم يجد شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن». هذا حديث حسن صحيح، وقد ذهب الشافعي إلى هذا الحديث، فقال: «إن لم يكن له شيء يصدقها فتزوجها على سورة من القرآن، فالنكاح جائز، ويعلمها سورة من القرآن». وقال بعض أهل العلم: النكاح جائز، ويجعل لها صداق مثلها، وهو قول أهل الكوفة، وأحمد، وإسحاق
هِبةُ المرأةِ نفْسَها: هي أنْ تَتزوَّجَ الرَّجُلَ بِلا مهرٍ، وقد أحَلَّ اللهُ سُبحانَه ذلك لنبيِّه خاصةً مِن دونِ المؤمِنينَ؛ قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
وفي هذا الحديثِ يروي سَهلُ بنُ سَعدٍ السَّاعديُّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ امرأةً جاءتِ لِتَهَبَ نَفْسَها لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوقفَتْ أمامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَويلًا، فنظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليها وصوَّبَ، أي: خفَضَ رأسَه، فلمَّا طالَ قيامُها بيْن يدَيْه ولم يَرُدَّ عليها، قال رجُلٌ: «زوِّجِنيها إنْ لم يكنْ لك بها حاجةٌ»، يعني: إنْ لم تُرِدْ زَواجَها، فسأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلْ تَملِكُ شَيئًا يكونُ صَداقَها ومَهرَها؟ فنفى الرَّجُلُ امتلاكَه للمالِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «انظرْ» فيما عندك، فابحثْ عَن شَيءٍ تَدفَعُه مَهْرًا لها، فذهب وبحَثَ فرجَعَ، وقال: لم أجِدْ شيئًا، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الْتَمِسْ ولو خاتمًا مِن حَديدٍ»، يعني: اذْهبْ فأْتِ بأيِّ شَيءٍ، ولو خاتمًا مِن حديدٍ، فذَهَبَ الرَّجلُ وبحَث فيما عنده ثُمَّ أتى، وقال: إنَّه لا يَملِكُ حتَّى الخاتمَ، ولم يكُنْ عليه سِوى إزارٍ يستُرُ به نِصفَ جَسَدِه من الأسفَلِ، فقالَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُصدِقُها إزاري»، أي: أُعْطِيها إِزاري مهرًا، فرفض ذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه إنْ لِبسَتْه المرأةُ لم يكُنْ عليكَ ثَوبٌ، وإنْ لِبْستَهُ أنتَ لم يكنْ عليها ثَوبٌ، فتَراجَعَ الرَّجلُ وجلَسَ، فلمَّا رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاهبًا دَعاهُ، وقال له: «ما مَعكَ مِنَ القرآنِ؟» أي: ما تَحفَظُ مِنه؟ فذَكَرَ الرَّجلُ له ما يَحفَظُ مِنَ السُّورِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قدْ مَلَّكتُكها بما معكَ مِنَ القرآنِ»، يعني زَوَّجْتُها لك بما تَحفظُ مِنَ القرآنِ.
وفي الحَديثِ: انعِقادُ النِّكاحِ بغَيرِ لَفظِ النِّكاحِ والتَّزويجِ.
وفيه: إنكاحُ المُعسِرِ، وأنَّ الكفاءةَ إنَّما هي في الدِّينِ لا في المالِ، وأنَّه لا حَدَّ لأقلِّ المَهرِ.
وفيه: أنَّ الإمام يُزوِّجُ مَن ليس لها ولِيٌّ خاصٌّ لِمَنْ يَراه كُفؤًا لها، بشَرْطِ رِضاها.
وفيه: إكرامُ حاملِ القرآنِ، حيث زوَّج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المرأةَ للرَّجلِ؛ لأجْلِ كونِه حافظًا للقرآنِ أو لبَعضِه. ليعلِّم المرأةَ ما حفِظه من القرآن، ويكون تعلِيمُه ما حفظه من القرآن مهراً لها.
وفيه: المُبالَغةُ في تَيسيرِ أمْرِ النِّكاحِ.
وفيه: دليلٌ على نَظَرِ كبيرِ القَومِ في مصالحِهم، وهدايتِه إيَّاهم إلى ما فيه الرِّفقُ بهم.