باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 2
بطاقات دعوية
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار؛ بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون؛ [هاجر إلى الحبشة رجال من المسلمين، و 7/ 39]، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى بلغ (برك الغماد) (55) لقيه ابن الدغنة -وهو سيد (القارة) - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر! لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم (56)، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة.
فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف [كفار 3/ 58]، قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، [وآمنوا أبا بكر]، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، [وبرز]، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فينقذف (وفي رواية: فيتقصف. وفي أخرى: فيقف 1/ 122) عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا [له]: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره؛ فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك؛ فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك (57)، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك؛ وإما أن ترجع إلي ذمتى، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين:
"إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان (58).
فهاجر من هاجر قبل المدينة [حين ذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر [مهاجرا]، قبل المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ (وفي رواية: قالت: استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر في الخروج حين اشتد عليه الأذى، فقال له: "أقم". فقال: يا رسول الله! أتطمع أن يؤذن لك؛ 5/ 43) قال:
"نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا
عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر.
قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة (وفي رواية: لقل يوم كان يأتي على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، فلما أذن له بالخروج إلى المدينة؛ لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرا، ف 2/ 23 - 24) قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مقبلا]، متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر [حدث]. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[حين دخل] لأبي بكر: "أخرج من عندك". فقال أبو بكر: [يا رسول الله!، إنما هم أهلك (وفي رواية: إنما هما ابنتاي. يعني: عائشة وأسماء) بأبي أنت يا رسول الله! قال: "فإني (وفي رواية: أشعرت أنه) قد أذن لي في الخروج؟ ". فقال أبو بكر: الصحابة (وفي رواية: الصحبة) بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! إحدى راحلتى هاتين، [قد كنت أعددتهما للخروج]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" [قد أخذتها] بالثمن"، [فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما، وهي الجدعاء] (59).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز (60)، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها، فربطت (وفي رواية: فأوكت) به على فم الجراب؛ فبذلك سميت ذات النطاق (61).
قالت: [فركبا، فانطلقا]، ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل [يقال له:] ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج (62) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان (وفي رواية: يكادان) به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر (وفي رواية: كان غلاما لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة، أخو عائشة لأمها، وكانت لأبي بكر) منحة من غنم، ف [كان]، يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما، ورضيفهما، حتى ينعق بها عامربن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدى؛ هاديا خريتا -والخريت: الماهر بالهداية- قذ غمس حلفا (63) في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة [يعقبانه]، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل [حتى قدما المدينة، فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة].
[(تريحون): بالعشي. (تسرحون): بالغداة 4/ 190] (64).
عاش النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه في مكَّةَ حَياةً صَعبةً، مِلْؤها أذَى الكُفَّارِ لهم، والتَّضييقُ عليهم في أمْرِ الدَّعوةِ إلى الإسلامِ، مع تَعذيبِهم وغيرِ ذلك مِن طُرقِ الإيذاءِ، ثمَّ أمَرَ اللهُ سُبحانه نَبيَّه بالهِجرةِ إلى المدينةِ.
وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها طَرَفًا ممَّا عاصَرَتْه مِن تلك الفترةِ؛ فتَرْوي أنَّها لمَّا كَبِرَت ووَعَتْ كان أبَواها أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وأمُّ رُومانَ يَدينانِ بِدينِ الإسلامِ، وكان لا يَمُرَّ يومٌ عليهم إلَّا ويَأْتيهم فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «طَرَفَيِ النَّهارِ: بُكرَةً وعَشيَّةً»، أي: مرَّةً يَأتِيهم في أوَّلِ النَّهارِ، ومرَّةً يَأتِيهم في آخِرِه، فلمَّا ابْتُلِيَ المُسلِمونَ بِأذَى المشرِكينَ، وأذِنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه في الهِجرةِ إلى الحَبَشةِ، خرَجَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مُهاجِرًا إلى الحَبَشةِ؛ لِيَلحَقَ بمَنَ سَبَقَه مِنَ المسلِمينَ، فَسارَ حتَّى إذا بَلغَ بَرْكَ الغِمادِ -وهو مَوْضِعٌ وَراءَ مكَّةَ بِخَمْسِ ليالٍ (140 كم)- لَقِيَه ابنُ الدَّغِنَةِ، وهو سيِّدُ القارَةِ، وهي قَبيلةٌ مَشهورةٌ مِن بَني الهُونِ، فقال: أينَ تُريدُ يا أبا بَكرٍ؟ فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أَخرَجَني قَومِي، أي: تَسبَّبوا في إخْراجي، فأنا أُريدُ أنْ أَسيرَ في الأرضِ، فَأَعبُدَ رَبِّي، فقالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: إنَّ مِثلَكَ لا يَخرُجُ مِن تِلقاءِ نفْسِه، ولا يُخرِجُه أحدٌ؛ فإنَّك تَكِسبُ المَعدومَ، أي: تُعِينُ الفقيرَ وذا الحاجةِ، وتَصِلُ الرَّحِمَ مِن القَرابةِ، وتَحمِلُ الكَلَّ، والمُرادُ: كَفالةُ اليَتيمِ والعاجِزِ، وتَقْرِي الضَّيفَ، فتُهيِّئُ له طَعامَه ونُزُلَه، وتُعِينُ على نَوائبِ الحقِّ في حَوادثِه ومَصائبِه، وأنا مُجيرٌ لك ومُؤمِّنُك مِمَّنْ تَخافُهم، فارجِعْ فَاعبُدْ رَبَّكَ ببِلادِك، فَارتَحَلَ ابنُ الدَّغِنَةِ فَرجَعَ مع أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فَذهَبَ ابنُ الدَّغِنَةِ إلى أشرافِ كفَّارِ قُريشٍ وَساداتِهم، ونَصَحَهم بعدَمِ إخراجِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن مكَّةَ؛ لِما فيه مِن الصِّفاتِ والأخلاقِ التي تَقدَّمَ ذِكرُها، فَأنْفَذَتْ قُريشٌ جِوارَ ابنِ الدَّغِنَةِ وأَمضَوْه ورَضُوا به، وجَعلُوا أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه في أمانٍ مِن شَرِّهم، وقالوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بَكرٍ فَلْيَعبُدْ رَبَّه في دارِه، ولْيُصلِّ ولْيَقرَأْ ما شاءَ ولا يُؤذِينا بذلك؛ إشارةً إلى ما ذُكِرَ مِنَ الصَّلاةِ والقراءةِ، ولا يَجهَرْ به؛ فإنَّا قد خَشِينا أنْ يَفتِنَ أبناءَنا ونِساءَنا، فيُخرِجَهم مِن دِينِهم إلى دِينِه، فأبْلَغَ ابنُ الدَّغِنَةِ بالَّذي شَرَطَه كَفَّارُ قُريشٍ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فوافَقَ عليه، وَجَعَلَ يَعبُدُ ربَّه في دارِه ولا يَستعْلِنُ بالصَّلاةِ ولا القِراءةِ في غيرِ دارِه، ثُمَّ ظَهَرَ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه رأْيٌ في أمْرِه بِخلافِ ما كان يَفعَلُه، فَبنى مَسجِدًا بِفِناءِ دارهِ، وما امتَدَّ مِن جَوانبِها، وهو أوَّلُ مَسجدٍ بُنِيَ في الإسلامِ، وظَهَرَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فكان يُصلِّي فيه ويَقرَأُ القرآنَ، فَيَتقصَّفُ عليه نِساءُ المشرِكينَ وأبناؤُهم، أي: يَزدَحمون ويَنظُرون إليه، وكان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه رَجلًا كَثيرَ البُكاءِ، لا يَملِكُ إمساكَ عَينَيْه عَنِ البكاءِ مِن رِقَّةِ قَلبِه، وذلك حِين يَقرَأُ القرآنَ، فَأَخافَ ذلك أشرافَ قُريشٍ مِنَ المشركينَ؛ لِمَا يَعلَمونَ مِن رِقَّةِ قُلوبِ النِّساءِ والشَّبابِ أنْ يَميلوا إلى دِينِ الإسلامِ، فأرْسَلوا إلى ابنِ الدَّغِنَةِ، فَقدِمَ عليهم، فقالوا له: إنَّا كنَّا أمَّنَّا أبا بَكرٍ على أنْ يَعبُدَ ربَّه في دارِه، وإنَّه جاوَزَ ذلك، فَبنَى مَسجدًا بِفِناءِ دارِه وأَعلنَ الصَّلاةَ والقراءةَ، وقدْ خَشِينا أنْ يَفتِنَ أبناءَنا ونِساءَنا، فَائْتِه؛ فَإنْ أَحبَّ أنْ يَقتصِرَ على أنْ يَعبُدَ ربَّه في دارِه فَعَلَ، وإنِ امْتنَعَ إلَّا أنْ يُعلِنَ ذلك، فاطلُبْ منه أنْ يَرُدَّ إليك ذِمَّتكَ وعهْدَك له؛ فإنَّا كَرِهْنا أنْ نُخْفِرَك، أي: نَنقُضَ عَهْدَك وجِوارَك، ولسْنا مُقِرِّينَ لأبي بَكرٍ أنْ يُعلِنَ ما يَفعَلُه مِن العِبادةِ وقِراءةِ القرآنِ، ولا نَسكُتُ على الإنكارِ عليه؛ خَوفًا على نِسائِنا وأبنائِنا، فَأتى ابنُ الدَّغِنَةِ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه فقال له: قد عَلمْتَ الَّذي عَقَدْتُ لك عليه مع قُريشٍ، فإمَّا أنْ تَقتَصِرَ على الَّذي شَرَطوه، وإمَّا أنْ تُردَّ إلَيَّ ذِمَّتي وعَهْدي؛ فإنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَسمَعَ العرَبُ أنِّي غُدِرَ بي في رَجلٍ عَقدْتُ له عَهْدًا، قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه: إِنِّي أَردُّ إليكَ جِوارَك وأرْضَى بجِوارِ اللهِ، أي: أكونُ في أمانِه وحِمايتِه، وفي هذا قوَّةُ يَقينِ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه.
وقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومئذٍ بِمكَّةَ، فأخْبَرَ المسلِمين أنَّه قدْ رَأى في مَنامِه -ورُؤيا الأنبياءِ حقٌّ ووَحْيٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ- مَكانَ هِجرتِهم، ويَقصِدُ بذلك المدينةَ، ومِن عَلاماتِها: أنَّ أرْضَها سَبْخةٌ، أي: تَعْلُوها المُلوحةُ ولا تَكادُ تُنبِتُ إلَّا بعضَ الشَّجرِ، ذاتَ نَخلٍ، بيْن لابَتَينِ: تَثْنيةُ لابَةٍ، وهي الحَرَّةُ، وهي أرضٌ بها حِجارةٌ سُودٌ، فهاجَرَ مَن هاجَرَ مِنَ المسلِمينَ قِبَلَ المدينةِ حِين ذكَرَ ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورجَعَ إلى المدينةِ بعضُ مَن كان هاجَرَ إلى أرضِ الحَبشةِ، وتَجهَّزَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه طالبًا الهِجرةَ مِن مكَّةَ، فقالَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: على مَهَلِك مِن غَيرِ عَجلةٍ؛ فَإِنِّي أرْجو أنْ يَأذنَ اللهُ لي في الهجرةِ، فقالَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: هلْ تَرجو ذلك بأبي أنتَ؟ أي: مَفْدِيٌّ أنتَ بأبي، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ أرْجو ذلك، فَحَبَسَ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه نفْسَه ولمْ يُهاجِرْ مع مَن هاجَرَ؛ لِيَكونَ صاحبًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الهجرةِ، وقد كان ما راجاهُ أبو بَكرٍ رَض يَ اللهُ عنه، وكانت عندَه رَاحلتَانِ -ناقتانِ-، فعَلَفَهما وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الورَقُ السَّاقطُ مِن الأشجارِ- أربعةَ أشهُرٍ؛ لتَتقوَّى على السَّفرِ؛ لأنَّه ورَقٌ يَحسُنُ به عَلْفُ الدَّوابِّ.
وفي الحديثِ: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأنَّه كان أشبَهَ النَّاسِ أَخلاقًا برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: ما كان عليه العرَبُ المُشرِكون مِن حِفظِ العَهدِ والجِوارِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الهِجرةِ مِن أرضِ الكُفْرِ إلى حيث يَأمَنُ المسلمُ على دِينِه.