باب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

سنن الترمذى

باب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو داود قال: أخبرنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت أبا وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " بئسما لأحدهم، أو لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي، فاستذكروا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقله ": «هذا حديث حسن صحيح»

القَرآنُ الكريمُ هو كلامُ اللهِ المقَدَّسُ، والمسلِمُ مُطالَبٌ بأن يقومَ بحِفْظِه ومعرفةِ ألفاظِه ومبانيه ومعانيه؛ فهو طريقُ الهِدايةِ والصَّلاحِ، فينبغي تعاهُدُه والمداومةُ على قراءتِه ومراجعَتِه حتى يَظَلَّ ثابتًا في العَقلِ والقَلبِ.
وفي هذا الحديثِ يذُمُّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن يَقولُ: «نَسيتُ آيةَ كَيْتَ وَكَيْتَ»، و(كَيْتَ وَكَيْتَ): لفظٌ يُعبَّرُ به عَنِ الجُملِ الكثيرةِ والكلامِ الطَّويلِ، وسَببُ الذُّمِّ ما في قول: (نَسِيتُ) مِنَ الإشعارِ بعَدمِ الاعتناءِ بالقرآنِ؛ إذْ لا يقَعُ النِّسيانُ إلَّا بتَرْكِ التَّعاهدِ وكثرةِ الغفْلةِ، فلو تَعاهَدَه بتِلاوتِه والقيامِ به في الصَّلاةِ وغيرِها، لَدامَ حِفظُه وتَذكُّرُه، فإذا قال الإنسانُ: نَسيتُ الآيةَ الفلانيَّةَ، فكأنَّه شهِدَ على نفْسِه بِالتَّفريطِ، فيكونُ مُتعلِّقُ الذَّمِّ تَرْكَ الاستذكارِ والتَّعاهُدِ؛ لأنَّه الَّذي يُورثُ النِّسيانَ؛ ولذلك أنكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يقولَ أحدٌ: نَسيتُ آيةَ كَيْتَ وكَيْتَ، وأمَرَ أنْ يُقالَ: «نُسِّيتُ»، يعني: أنَّ اللهَ تعالَى هو الَّذي أنساهُ، ومعناه: أنَّه عُوقِبَ بوُقوعِ النِّسيانِ عليه؛ لِتفريطِه في مُعاهدتِه واستذكارِه، ثُمَّ أَوْصى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِاستذكارِ القرآنِ ومُراجعتِه؛ لأنَّه أشدُّ تَفَصِّيًا، يعني: انفلاتًا «مِنَ النَّعمِ»، أي: مِنَ الإبلِ، والمعنى: أنَّ الإنسانَ إذا لم يُداومِ مُراجعةَ القرآنِ فإنَّه يَنفلِتُ مِنْ صدرِه كما تَهرُبَ الإبلُ إذا فُكَّ وِثاقُها، وهي أسرعُ الحيواناتِ نُفورًا.
وهَجرُ القُرآنِ من أسبابِ نِسيانِه، وتكونُ عاقبتُه وَخيمةً في الدُّنيا والآخرةِ، وهَجرُ القُرآنِ يَشمَلُ هَجْرَ اللَّفظِ، وهَجْرَ المعنى، وهَجْرَ العمَلِ؛ فقد يكونُ الإنسانُ يتلوه ليلًا ونهارًا في كلِّ آنٍ، ويكونُ هاجرًا له؛ لأنَّه لم يعمَلْ به، وقد يكونُ يَقرَؤه لفظًا ولكِنَّه لا يفهَمُه معنًى، فيكونُ هجرًا؛ لأنَّ الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، فإذا لم يكن تدَبُّرٌ ولا تذَكُّرٌ فهذا هجْرٌ للقُرآنِ.
وفي الحَديثِ: الحثُّ على تَعاهُدِ القرآنِ بالتِّلاوةِ والدَّرسِ، والتَّحذيرُ مِن تَعريضِه لِلنِّسْيانِ بإهمالِ تِلاوتِه.