باب فى النذر فيما لا يملك

باب فى النذر فيما لا يملك

حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا حدثنا حماد عن أيوب عن أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران بن حصين : قال كانت العضباء لرجل من بنى عقيل وكانت من سوابق الحاج قال : فأسر فأتى النبى -صلى الله عليه وسلم- وهو فى وثاق والنبى -صلى الله عليه وسلم- على حمار عليه قطيفة فقال : يا محمد علام تأخذنى وتأخذ سابقة الحاج قال : « نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف ». قال : وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبى -صلى الله عليه وسلم- قال : وقد قال فيما قال : وأنا مسلم أو قال : وقد أسلمت. فلما مضى النبى -صلى الله عليه وسلم- - قال أبو داود : فهمت هذا من محمد بن عيسى - ناداه يا محمد يا محمد. قال : وكان النبى -صلى الله عليه وسلم- رحيما رفيقا فرجع إليه قال : « ما شأنك ». قال : إنى مسلم. قال : « لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ». قال أبو داود : ثم رجعت إلى حديث سليمان قال : يا محمد إنى جائع فأطعمنى إنى ظمآن فاسقنى. قال فقال النبى -صلى الله عليه وسلم- : « هذه حاجتك ». أو قال : « هذه حاجته ». قال : ففودى الرجل بعد بالرجلين. قال : وحبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العضباء لرحله - قال - فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا بالعضباء - قال - فلما ذهبوا بها وأسروا امرأة من المسلمين - قال - فكانوا إذا كان الليل يريحون إبلهم فى أفنيتهم - قال - فنوموا ليلة وقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء - قال - فأتت على ناقة ذلول مجرسة - قال - فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها - قال - فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ناقة النبى -صلى الله عليه وسلم- فأخبر النبى -صلى الله عليه وسلم- بذلك فأرسل إليها فجىء بها وأخبر بنذرها فقال : « بئسما جزيتيها ». أو : « جزتها ». : « إن الله أنجاها عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر فى معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم ». قال أبو داود : والمرأة هذه امرأة أبى ذر.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما يحل لهم وما لا يجوز فعله، وأن الإنسان يتصرف في ملكه الخاص كما يشاء، ولكنه لا يتصرف في ملك غيره دون إذنه
وفي هذا الحديث يروي عمران بن حصين رضي الله عنه أن ثقيفا، وهي قبيلة كانت تسكن الطائف وما حواليها من القرى، وكانوا حلفاء لقبيلة بني عقيل، أي: كان بينهما عهد على أن يكون أمرهما واحدا في النصرة والحماية، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ثقيف عهد ألا يتعرضوا لأحد من المسلمين، فنقضت ثقيف العهد، فأسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، عوضا من الرجلين اللذين أخذهما ثقيف، وكان عادتهم أن يأخذوا الحليف بجرم حليفه؛ لأنهم داخلون في حكمهم في نقض العهد، ففعل صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع على عادتهم، فربط الصحابة رضي الله عنهم هذا الأسير بالوثاق، وأصابوا معه العضباء، أي: أخذوها، وهي ناقة نجيبة كانت لهذا الرجل من بني عقيل، ثم انتقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعضب هو شق الأذن، وهو لقب لتلك الناقة، لا أنها كانت مشقوقة الأذن
فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الأسير، فناداه وقال: يا محمد، ينادي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا؛ وذلك لأنه كافر ولم يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله: لأي شيء أخذت، أي: أسرت وأوثقت؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: "بجريرة"، أي: بذنب حلفائكم ثقيف، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم ومضى، وسؤاله: «وبم أخذت سابقة الحاج» يقصد الناقة المذكورة، وكانت تسبق نوق الحجاج، وكانت العضباء معروفة بذلك، قيل: إن استفهام الرجل عن السبب الذي أوجب أخذه، وأخذ ناقته؛ لأجل أنه كان يعتقد أن له ولقبيلته عهدا من النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بذكر السبب؛ إعظاما لحق الوفاء بالعهد، الذي كان يجب على ثقيف أن تبقي عليه، وإبعادا لنسبة الغدر إليه: أخذتك بما فعله حلفاؤك ثقيف من أسر بعض أصحابي
فناداه الأسير مرة ثانية: يا محمد، يا محمد، مرتين، ولعل نداءه كان على وجه الاستعطاف؛ ولذلك قال الراوي: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا» أي: رقيق القلب، شديد الرأفة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إلى الأسير عند كل مناداة، وهذا ليس من عادة الملوك والقادة في تلك المواطن، إلا أن اشتمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرحمة والرقة، هو السبب الذي كان يرجعه إلى الأسير
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: «ما شأنك؟» أي: ماذا تريد؟ فقال: «إني مسلم» الآن، أو أريد الدخول في الإسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قلتها»، أي: كلمة الإسلام، «وأنت تملك أمرك» في حال اختيارك قبل الأسر، «أفلحت كل الفلاح» ونجوت في الدنيا بالخلاص من الرق، وفي العقبى بالنجاة من النار، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إسلامه، ومن المشتهر في الشريعة أن إسلام الأسير مقبول: أن الرجل إنما قالها كاذبا، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوحي من الله تعالى؛ ولذلك لم يرفع عنه الأسر، ودليل على ذلك أنه لما فدي بالرجلين المسلمين الأسيرين عند ثقيف، لم يرد في هذا الحديث أو غيره أن الرجل قد رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه المزعوم.
ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه الأسير مرة ثالثة، «فقال: ما شأنك؟ قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هذه حاجتك»، أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحضر له من الطعام والشراب ما يرد به جوعه وظمأه، «ثم فداه صلى الله عليه وسلم» أبدله بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف
ثم يحكي عمران رضي الله عنه أن امرأة من الأنصار -وهم أهل المدينة- أسرت، وهي امرأة أبي ذر رضي الله عنه، «وأصيبت العضباء» أي: أخذها المشركون، فكانت المرأة موثوقة ومربوطة بالحبال، وكان القوم الذين أسروا المرأة والعضباء يريحون نعمهم، أي: إبلهم، والمعنى: أن أماكن المأوى والبيات لتلك الإبل كانت بيوتهم؛ ولذلك فإن المرأة لما انفلتت، وفكت وثاقها وهربت ذات ليلة، جاءت إلى تلك الإبل لتهرب على واحدة منها، فجعلت تلك المرأة إذا دنت وقربت من البعير واحدا تلو الآخر «رغا» والرغاء: صوت الإبل، فتتركه مخافة أن يظهر أمرها ويطلعوا عليها حتى أتت إلى العضباء التي هي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي أخذها المشركون، وكانت قائمة في جملة إبلهم، فلم ترغ، أي: لم تصدر صوتا، وهو كناية عن استطاعة المرأة ركوبها، قال الراوي: «وناقة منوقة»، أي: إن العضباء ناقة مذللة مدربة لا نفرة عندها، فقعدت في عجزها، أي: ركبت على مؤخرتها، ثم زجرتها وحركتها لتسرع بها في السير، فانطلقت وذهبت وهربت بها، ونذروا بها، أي: علموا بها وبهروبها، فطلبوها ليمسكوا بها، فأعجزتهم، أي: لم يستطيعوا اللحاق بها
ويحكي عمران رضي الله عنه أن المرأة نذرت لله، إن نجاها الله عليها، أن تذبح هذه الناقة العضباء قربة لله، والنذر هو إيجاب المرء فعل أمر على نفسه لم يلزمه به الشارع. فلما نجت المرأة وقدمت إلى المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهم المرأة: «أنها نذرت، إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال: سبحان الله!» تعجبا من سوء مجازاتها لها، «بئسما جزتها» أي: كافأتها على إحسانها بإنجائها من عدوها؛ وذلك لأن المرأة نذرت ذبحها، وكان الأولى الإبقاء على مثل تلك الناقة لنجابتها وسرعتها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا وفاء لنذر في معصية»، كأن نذر أن يشرب الخمر؛ فإنه لا يوفي بذلك النذر، «ولا فيما لا يملك العبد»، وهو إشارة إلى أن المرأة لا تملك تلك الناقة حتى تذبحها، خاصة وأنها قد رجعت لمالكها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن نذرها باطل
وقوله في الروايات عن الناقة: «ذلول مجرسة»، «مدربة» و«منوقة»، كله بمعنى واحد
وفي الحديث: السعي في فكاك الأسير المسلم من أيدي المشركين
وفيه: أن ما وجد من أموال المسلمين بأيدي الكفار، وغلبوا عليه، وعرف مالكه؛ فهو له