باب فى النهى عن السعى فى الفتنة

باب فى النهى عن السعى فى الفتنة

حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أبى عمران الجونى عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر قال قال لى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « يا أبا ذر ». قلت لبيك يا رسول الله وسعديك. فذكر الحديث قال فيه « كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ». قلت الله ورسوله أعلم أو قال ما خار الله لى ورسوله. قال « عليك بالصبر ». أو قال « تصبر ».
ثم قال لى « يا أبا ذر ». قلت لبيك وسعديك. قال « كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم ». قلت ما خار الله لى ورسوله. قال « عليك بمن أنت منه ». قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفى وأضعه على عاتقى قال « شاركت القوم إذا ». قلت فما تأمرنى قال « تلزم بيتك ». قلت فإن دخل على بيتى قال « فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه ». قال أبو داود لم يذكر المشعث فى هذا الحديث غير حماد بن زيد.

أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سبل الهدى والرشاد، وعلمها الصبر على الشدائد، وحذرها من الوقوع والانسياق وراء الفتن، وشدد على حرمة الدم المعصوم
وفي هذا الحديث يخبر الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري عما علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال له: "كيف أنت يا أبا ذر وموتا يصيب الناس؟"، أي: كيف يكون حالك وماذا ستفعل في أيام يكثر فيها الموت، "حتى يقوم"، من التقويم، "البيت بالوصيف؟"، أي: حتى تصير قيمة البيت بثمن العبد، قيل: المراد بالبيت القبر، أي: يباع موضع القبر بعبد وصيف؛ كناية عن ارتفاع مواضع القبور من الأموات، أو لتبلغ أجرة الحفار قيمة العبد؛ لكثرة الموتى وقلة الحفارين، واشتغالهم بالمعيشة. وقيل: المراد بالبيت البيت المتعارف، والمعنى: أن البيوت تصير رخيصة؛ لكثرة الموت وقلة من يسكنها، فيباع البيت بعبد، مع أن البيت عادة يكون أكثر قيمة، قال أبو ذر رضي الله عنه: "قلت: ما خار الله لي ورسوله، أو قال: الله ورسوله أعلم"، أي: أفعل ما يأمرني به الله ورسوله في مثل هذه الحال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصبر"، أي: اطلب الصبر وتكلفه على هذه الحالة
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت وجوعا يصيب الناس"، أي: يصيب الناس جوع شديد، وشدة في العيش وقلة في الطعام، "حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟"، أي: تضعف قوتك وجسدك بسبب قلة الطعام، وهذا كناية عن شدة الجوع الذي لا يقدر الإنسان أن يبلغ به حاجته؟ قال أبو ذر: "قلت: الله ورسوله أعلم، أو: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بالعفة"، أي: الزم التعفف، فلا تطلب حراما ولا تسأل الناس
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "كيف أنت وقتلا يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت؟"، وهو موضع بالمدينة في الحرة؛ سمي بها لسواد الحجارة هناك، حتى كأنها طليت بالزيت، والمعنى: أن الدم يعلو حجارة الزيت ويسترها؛ لكثرة القتلى، وهذا إشارة إلى وقعة الحرة التي كانت زمن يزيد، فقال أبو ذر: "ما خار الله لي ورسوله"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الحق بمن أنت منه"، أي: الزم أهلك وبيتك، ولا تشارك بما سيحدث من فتن، فقال أبو ذر رضي الله عنه: "يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟"، أي: ألا تأمرني أن أمنع حالة القتل وأقتص ممن قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شاركت القوم إذن"، أي: شاركتهم في الفتنة، وتحملت من آثامهم إذا أنت فعلت ذلك! "ولكن ادخل بيتك"، أي: مؤكدا عليه لزومه لبيته دون أدنى مشاركة منه، قال أبو ذر: "قلت: يا رسول الله، فإن دخل بيتي؟"، أي: إن دخل علي من يريد قتلي وأنا في بيتي؟ فقال: "إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف"، أي: إذا كان الخوف من السيف سيحملك على أن تدفعه، وشعاع السيف: بريقه ولمعانه، "فألق طرف ردائك على وجهك"، والمعنى: لا تحاربهم وإن حاربوك، بل استسلم للقتل؛ لأن أولئك من أهل الإسلام، ويجوز معهم عدم المحاربة والاستسلام، كما أشار إليه بقوله: "ليبوء"، أي: ليرجع القاتل "بإثمك"، أي: بإثم قتلك، "وإثمه"، أي: وبسائر إثمه؛ "فيكون من أصحاب النار"، وهذا الكلام زجر منه صلى الله عليه وسلم عن السعي في كثرة إراقة الدماء، وإلا فمن المعلوم من أصل الشرع: أن دفع الخصم واجب
قيل: أخبر بهذه الوقائع على احتمال أن أبا ذر لعله يدركها، وإلا فأبو ذر مات قبل وقعة الحرة؛ فإنه مات في خلافة عثمان رضي الله عنه، أو يكون تعليما لمن يدركها، وأما وقوع الجوع والموت بالمدينة فيحتمل أن أبا ذر أدركها؛ لأنه وقع قحط وموت بها في عام الرمادة وغيره
وفي الحديث: التحذير من في الفتن
وفيه: الحث على البعد عن إراقة الدماء، وأن العبد خير له أن يقتل مظلوما، ولا يسفك دما معصوما