‌‌باب ما جاء في الاعتكاف2

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الاعتكاف2

حدثنا هناد قال: حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل في معتكفه»: وقد روي هذا الحديث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. رواه مالك، وغير واحد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة مرسلا، ورواه الأوزاعي، وسفيان الثوري، وغير واحد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، " والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم يقولون: إذا أراد الرجل أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل في معتكفه وهو قول أحمد، وإسحاق بن إبراهيم «،» وقال بعضهم: إذا أراد أن يعتكف فلتغب له الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد وقد قعد في معتكفه، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس "
‌‌

كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُواظِبُ على الاعتِكَافِ في ليالي رَمضانَ؛ يلتمسُ ليلةَ القَدْرِ، ويتفرَّغُ لعبادِة الله سُبحانَه في هذه الأيَّامِ المباركةِ، ويَبتعِدُ عن الانشغالِ بالخَلقِ، وكان يَعتكِف العَشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ حتَّى توفَّاه اللهُ تعالى، واعتَكفَ مرَّةً في العَشرِ الأُوَلِ مِن رَمضانَ، ثم العَشْر الوُسطَى، ثمَّ العَشر الأواخِر، وتَرَك الاعتكافَ مرَّةً فقضاهُ في شوَّال.
وفي هذا الحَديثِ تَقولُ أمُّ المؤمنِينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم إذا أرادَ أن يعتَكِفَ صلَّى الفجرَ ثمَّ دخَل مُعتكَفَه"، والمعتكَفُ: هو مكانٌ في المسجِدِ كان يَخْلو فيه بنَفْسِه ويتقرَّبُ إلى ربِّه.
قالَت عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "وإنَّه أرادَ أن يَعتَكِفَ في العَشْرِ الأواخرِ مِن رمَضانَ"، أي: في أحدِ الأعوامِ أرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الاعتكافَ في العَشرِ الأَواخرِ؛ لأنَّه تَكونُ فيها ليلةُ القَدْرِ، "فأمَر ببِنائِه فضَرَب"، أي: بالخَيمةِ الَّتي يَعتَكِفُ فيها فأُقيمَتْ، قالتْ عائشةُ رَضِي اللهُ عنها: "فلمَّا رأيتُ ذلك أمَرتُ ببِنائي فضُرِب"، أي: بخَيمَتِها فبُنِيَت، وذلك بعدَ أن استأذَنَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، قالت: "وأمَرَ غيري مِن أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم"، كحَفْصَةَ، وزَينبَ، وغيرِهما، "ببِنائِه فضُرِب، فلمَّا صلَّى الفَجْرَ نظَر إلى الأبنِيَةِ فقال: ما هذه؟"، أي: ما هذه الأبنِيَةُ؟ "آلبِرَّ تُرِدْنَ؟" البِرُّ هو جِماعُ الخيرِ، وهذا الأسلوبُ استفهامٌ على وجْهِ الإنكارِ،، والمعنى: ما أرَدتُنَّ البرَّ بهذا العَمَلِ!
قالَت: "فأمَر" أي: النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم "ببِنائِه فقُوِّض"، أي: أُزيلَ ونُقِض، "وأمَر أزواجُه بأبنِيَتِهنَّ فقُوِّضَت"؛ قيل: وإنَّما فَعَل صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك؛ لأنَّه كأنَّه خَشِيَ أن يكونَ الحاملُ لهنَّ على ذلك المباهاةُ، والتنافسُ الناشئُ عن الغَيرَة؛ حِرصًا على القُربِ منه خاصَّةً، أو خَشيةَ تَوارُدِ بقيَّةِ النِّسوةِ على ذلك، فيَضيقُ المسجدِ على المصلِّين، أو لأنَّ اجتماعَ النِّسوةِ عِندَه يُصيِّرُه كالجالسِ في بيتِه، وربَّما يُشغَلُ عن العِبادةِ، فيفوتُ مقصودُ الاعتكافِ. قالتْ: "ثمَّ أخَّرَ الاعتِكافَ إلى العَشْرِ الأُوَلِ؛ يَعْني مِن شوَّالٍ"، أي: قَضى ما ترَكه مِن رمَضانَ؛ لأنَّه كان إذا عَمِل عمَلًا أثبَتَه.
وفي الحديثِ: بيانُ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الاجتهادِ في العِبادةِ وتَدارُك ما فاتَه من الخيرِ والأعمالِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان إذا عَمِلَ عملًا أثبتَه.
وفيه: بيانُ حُسنِ تَربيةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حيثُ بدَأ بنفْسِه عندما أرادَ أن يُغيِّر مِن فِعلِ نِسائِه رضِيَ اللهُ عنهنَّ.