باب مناقب معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، يحدث عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} [البينة: 1] " قال: وسماني؟ قال: «نعم»، فبكى: «هذا حديث حسن صحيح» وقد روي عن أبي بن كعب، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه
في هذا الحَديثِ يَحكي أُبَيُّ بنُ كعبٍ رضِيَ اللهُ عنه- وكان أُبَيٌّ مِن أحفَظِ الصَّحابةِ لكتابِ اللهِ تعالى-: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال له: "إنَّ اللهَ أمَرني أن أقرَأَ عليك"، أي: ممَّا أُنزِل مِن القرآنِ، أَمَرني أنْ أقرَأ عليك القرآنَ قِراءةَ تعليمٍ؛ فإنَّ المعلِّمَ إذا قرَأ والمتعلِّمُ يَسمَعُه كان ذلك أشَدَّ اعتِمادًا عليه مِن أن يَقرَأَ المتعلِّمُ, وكان فيه تَعليمُ حُسنِ التَّرتيبِ والتَّأديةِ، وكيفيَّةِ التَّرتيلِ، وسائرِ هَيئاتِ القراءةِ؛ قيل: لعلَّ السِّرَّ في ذلك أنَّ اللهَ سبحانه لَمَّا قدَّر أن يَجعَلَ أُبيًّا أقرَأَ الصَّحابةِ، أمَر اللهُ نبِيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أن يَقرَأَ عليه؛ لِيَتَّصِلَ السَّنَدُ من أُبيٍّ إلى ربِّ العالَمين، فيُلقِّبَه بالأقرَأِ، وقيل: غير ذلك، "فقرَأ عليه"، أي: فكان ممَّا قرَأه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على أُبَيِّ بنِ كعبٍ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، أي: سورةَ البيِّنةِ، "فقرَأ فيها: إنَّ ذاتَ الدِّينِ"، أي: أصلَه وفِطرتَه، "عند اللهِ الحَنِيفيَّةُ المسلِمةُ لا اليهوديَّةُ، ولا النَّصرانيَّةُ، مَن يعمَلْ خيرًا فلن يُكْفَرَه"، أي: لن يَضِيعَ ثوابُه، ولن يُحرَمَ منه، بل سيُجازيه اللهُ عليه، "وقرَأ عليه"، أي: وكان ممَّا قرَأه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على أُبَيٍّ أيضًا: "ولو أنَّ لابنِ آدَمَ واديًا مِن مالٍ"، أي: يملَؤُه المالُ، "لابتَغَى"، أي: لحرَصَ وطَمِعَ أن يَضُمَّ "إليه ثانيًا"، أي: واديًا ثانيًا، "ولو كانَ له ثانيًا، لابتَغَى إليه ثالثًا، ولا يَملَأُ جوفَ ابنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ"، أي: إنَّ ابنَ آدَمَ لا يَزالُ حريصًا على الدُّنيا حتَّى يموتَ ويمتَلِئَ جوفُه مِن ترابِ قبرِه، "ويتوبُ اللهُ على مَن تاب"، أي: ويقبَلُ اللهُ عزَّ وجلَّ كلَّ توبةِ تائبٍ راجِعٍ إلى اللهِ تعالى.
وقولُه: فكان ممَّا قرَأ في السُّورةِ: "إنَّ ذاتَ الدِّينِ عندَ اللهِ الحَنِيفيَّةُ المسلِمةُ... إلخ"، وقولُه: "ولو أنَّ لابنِ آدَمَ واديًا مِن مالٍ... إلخ"؛ ورَد عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ "سأَل أُبيًّا عنها، فقال: هكذا أقرَأَنيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قال عُمرُ: أفأُثبِتُها في المصحَفِ؟ قال: نعَم"، إلَّا أنَّه قد ورَد عن ابنِ عبَّاسٍ في روايةٍ أخرى ما يَدُلُّ على تَشكُّكِ أُبيٍّ في أنَّها آيةٌ، فلمَّا قال له عُمرُ: "قال: أنَكتُبُها؟ قال: لا أنهاك"، فكأنَّ أُبيًّا شكَّ هل هي حَديثٌ أم قرآنٌ، وهذا يَحتَمِلُ أن يَكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أخبَر به عن اللهِ تعالى على أنَّه مِن القرآنِ، ويَحتمِلُ أن يَكونَ مِن الأحاديثِ القُدسيَّةِ, وعلى احتِمالِ أنَّه مِن القرآنِ، فيكون ممَّا نُسِخَت تِلاوتُه جَزمًا، وإنْ كان حُكمُه مُستمِرًّا .