باب: ومن سورة المائدة4
سنن الترمذى
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا الحارث بن عبيد، عن سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، بهذا الإسناد نحوه،: «هذا حديث غريب» وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس» ولم يذكروا فيه عن عائشة
ضَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَثَلَ في التَّوكُّلِ على اللهِ سُبحانه وتعالَى، مع الأخذِ بالأسبابِ؛ تَعليمًا لأُمَّتِه، وأداءً للأمانةِ الَّتي على عاتِقِه، فالاحتراسُ منَ العدوِّ والأخذُ بالحَزمِ والاحتياطِ مَطلَبٌ شَرعيٌّ.
وفي هذا الحديثِ تَروي أمُّ المؤمِنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصابَه ذاتَ ليلةٍ الأرَقُ، فلم يَستطِعِ النَّومَ، وكانَ ذلك وقتَ قُدومِه إلى المدينةِ النَّبويَّةِ من بعضِ الغَزَواتِ، كما في روايةٍ في الصَّحيحَينِ، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحدِّثًا بذلك عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: «لَيْتَ رجُلًا صالِحًا من أصحابِي»، فتَمنَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لو أنَّ رَجلًا من أصحابِه قامَ على بَيتِه يَحرُسُه خَشيةً من عدوٍّ ونحوِه، وإنَّما عانَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك مع قوَّةِ تَوكُّلِه؛ للاستِنانِ به في ذلك، فهو منَ الأخذِ بالأسبابِ، وبينما هُما على هذه الحالةِ إذ سَمِعَا صَوتَ السِّلاحِ منَ الخارِجِ، فسَألَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ الذي في الخارجِ ويَحمِلُ السِّلاحَ، فأُخبِرَ أنَّه سَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأنَّه جاءَ ليَحرُسَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللَّيلِ؛ فقدِ استجابَ اللهُ لرَغبةِ نبيِّه وألهمَ بها سعدًا رَضيَ اللهُ عنه، وجاءَ في رِوايةٍ في صحيحِ مُسلِمٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سألَه: «ما جاءَ بك؟ فقالَ: وَقَع في نفْسِي خَوفٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجِئتُ أَحرُسُه»، قالت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها: «فنامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى سَمِعْنا غَطِيطَه» والغَطيطُ: صَوتُ النَّائمِ ونَفخُه، وهو كنايةٌ عنِ اطمئنانِه واستغراقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في النَّومِ.
قيلَ: هذا الحديثُ كانَ قبلَ نُزولِ قولِه تَعالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ فعِندَ التِّرمذيِّ من حديثِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: «كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحرَسُ حتَّى نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأخرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأْسَه منَ القُبَّةِ، فقالَ لهُم: يا أيُّها النَّاسُ، انصَرِفُوا؛ فقدْ عَصَمَني اللهُ»، ويَحتمِلُ أنَّه لا تَعارُضَ أن يُقالَ: إنَّ قولَه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ليس فيه ما يُناقِضُ احتراسَه منَ النَّاسِ، ولا ما يَمنَعُه، كما أنَّ إخبارَ اللهِ تَعالَى عن نَصرِه وإظهارِه لدينِه، ليس فيه ما يَمنَعُ الأمرَ بالقِتالِ، وإعدادِ العَدَدِ، والعُدَدِ، والأخذِ بالجِدِّ والحَزمِ، والحَذَرِ.
وفي الحديثِ: الأخْذُ بالحَذَرِ، والاحتراسُ مِنَ العدوِّ، وحِراسةُ السُّلطانِ خَشيةَ القَتلِ.
وفيه: أنَّ الأخذَ بالأسبابِ لا يُنافي التَّوكُّلَ على اللهِ تَعالَى.
وفيه: مَنقَبةٌ لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ حيثُ وافَقَ تَفكيرُه تَفكيرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع حِرصِ سعدٍ على حِراسةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.