حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم 15
مستند احمد
حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا أبو حفص، وكلثوم بن جبر، عن أبي غادية، قال: قتل عمار بن ياسر فأخبر عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قاتله، وسالبه في النار» ، فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله، قال: إنما قال: قاتله، وسالبه
وَقَعتِ الفِتنةُ بين المُسلِمينَ بعدَ مَقتِلِ الخَليفةِ الراشِدِ عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه، واختَلَفَ أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الفِتنَةِ، وكُلٌّ قد اجتَهَدَ، فأصابَ مَن أصابَ ونال أَجرينِ، وأخطَأَ مَن أخطَأَ ونالَ أجرًا واحدًا، وعفوُ اللهِ شاملٌ لهم لسابقتِهم وأعمالِهم الجَليلةِ، وعلينا أنْ نتعَلَّمَ الدُّروسَ مِن ذلك مع الإمساكِ عمَّا شَجَرَ بينهم
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "إنِّي لجالِسٌ عندَ مُعاوِيَةَ؛ إذْ دَخَلَ رَجُلانِ يَختَصِمانِ في رأْسِ عَمَّارٍ"، أي: في قتْلِ عمار بن ياسر رضِيَ اللهُ عنهما، وكان هذا بعدَ مَوقِعَةِ صِفِّينَ التي قُتِلَ فيها عَمَّارٌ، وكانت في صَفَرَ سَنَةَ 37هــ، "وكُلُّ واحِدٍ منهما يقولُ: أنا قَتَلتُه"، أي: أنَّ خِلافَهما وخِصامَهما كان بسَبَبِ قتْلِ عَمارِ بنِ ياسِرٍ، فكلُّ واحِدٍ منهما يُريدُ أنْ يُثبِتَ أنَّه قاتِلُه، ولم يَفهَما أنَّ قتْلَ عَمارٍ رضِيَ اللهُ عنه كبيرةٌ من أكبَرِ الكبائِرِ، لَزِمَ لمَنْ وَقَعَ فيها أنْ يَستغفِرَ ما بَقِيَ من عُمُرِه لا أنْ يَفتخِرَ بهذا! فقال لهما عبدُ اللهِ بنُ عُمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "لِيَطِبْ أحدُكما به نَفْسًا لصاحِبِه"، وكأنَّه أرادَ أنْ يقولَ: فلْيتنازَلْ أحدُكم لصاحِبِه بقَتْلِ عَمارٍ؛ فليس هذا بالخيرِ حتى تَتَسابَقا وتَتَخاصَما لأجْلِه، بل هي كبيرةٌ من الكبائِرِ، وهذا تهكُّمٌ منه عليهما، وقد وَضَّح هذا بقولِه: "فإنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: تقتُلُه الفِئَةُ الباغِيَةُ"، أي: أنَّه ستَحدُثُ فِتنَةٌ بين المُسلِمينَ بعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويكونُ عَمارٌ في طائِفَةٍ منها، وهي طائفةُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه ومَن مَعَه، وتكونُ الظالمةُ والمُعْتديَةُ هي التي تقتُلُ عمَّارًا وهي طائفةُ مُعاويةَ بنُ أبي سُفيانَ رضِيَ اللهُ عنهما ومَن مَعَه، فسَمِعَ مُعاوِيَةُ رضِيَ اللهُ عنه كلماتِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، فالتَفَتَ إلى أبيه عَمرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنه، قائِلًا له: "ألَا تُغني عنَّا مجنونَك يا عَمرُو"! أي: يُحرِّضُ مُعاوِيَةُ عَمرًا على ابنِه لِيُسكِتَه، "فما له مَعَنَا؟"، أي: يَستنكِرُ مُعاوِيَةُ رضِيَ اللهُ عنه على عبدِ اللهِ حديثَه؛ إذ كيف له أنْ يكونَ مَعَنَا ويقولَ مِثلَ هذا الحديثِ! فقام عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما يُبيِّنُ الحقيقةَ، ويُوضِّحُ الصورةَ التي خَفِيَتْ على مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ نفسِه، فقال له: "إنِّي لستُ معكم، ولستُ أُقاتِلُ"، أي: إنَّ مُجالستي لكم لا تَعني نُصرَتَكم ومُوافقَتَكم، بل لو دُعِيَ إلى قِتالٍ معهم فلن يُقاتِلَ، ثم قال عبدُ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "إنَّ أبي شَكاني إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَطِعْ أباكَ ما دامَ حَيًّا ولا تَعْصِهِ"، وهذه وَصِيَّةُ رَسولِ اللهِ بأنْ أُطيعَ أبي؛ فأنا لا أعْصي أمْرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ "فأنا مَعَكم ولستُ أُقاتِلُ"، أي: إنَّ وُجودَه معهم كان لمُجرَّدِ إجابةِ أمْرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طاعَتِه لأبيه، ومِن طاعَتِه لأبيه أنْ يكونَ معه حيثُما وُجِدَ -وكان أبوه مع مُعاويةَ- وهذا لم يَمنَعْه من قَولِ حَقٍّ، وإظهارِ حَديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم