مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه489
مسند احمد
حدثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال: يد بيد، قلت: نعم. قال: لا بأس، فلقيت (2) أبا سعيد الخدري فأخبرته أني سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: لا بأس. فقال: أوقال ذاك؟ أما إنا سنكتب إليه، فلن يفتيكموه، قال: فوالله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فأنكره، فقال: " كأن هذا ليس من تمر أرضنا؟ "، فقال: كان في تمرنا العام بعض الشيء، وأخذت (3) هذا وزدت بعض الزيادة، فقال: " أضعفت، أربيت، لا تقربن هذا، إذا رابك من تمرك شيء، فبعه، ثم اشتر الذي تريد من التمر " (4)
الرِّبا مِن أكبَرِ الكَبائرِ، وقدْ نَهَى الشَّرعُ عن كلِّ بَيعٍ فيه شُبهةُ رِبًا، وأجازَ البيعَ الحلالَ الَّذي لا رِبا فيه، حيثُ كانتِ الجاهليَّةُ تَموجُ بالبُيوعِ الرِّبويَّةِ، فهذَّبَ الإسْلامُ تلك البُيوعَ ونقَّحَها.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ أبو نَضْرةَ المنذرُ بنُ مالكٍ العَبْديُّ أنَّه سَألَ الصَّحابيَّ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما عنِ الصَّرفِ، وهو بَيعُ الجِنسِ بالجِنسِ مُتفاضِلًا وبزيادةٍ في المأْخوذِ أوِ المُعْطَى، مثلَ بيعِ دِينارٍ بدينارَيْنِ، ودِرهَمٍ بدِرهَمَينِ؛ هل هو بيعٌ رِبويٌّ؟ فأجابَ ابنُ عبَّاسٍ أنَّه ليس رِبًا إذا كان يدًا بيدٍ، أي: في وقْتِهِ الَّذي بِيعَ فيه، فابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما كان لا يرَى الرِّبا في بَيعِ الجِنسِ بالجِنسِ بعضِه ببَعضٍ مُتفاضِلًا، وأنَّ الرِّبا لا يَحرُمُ في شَيءٍ مِنَ الأشياءِ إلَّا إذا كان نَسِيئةً مؤجَّلًا.
فأَخبرَ أبو نَضْرةَ أبا سَعيدٍ الخُدريَّ رَضيَ اللهُ عنه بفَتْوى ابنِ عبَّاسٍ، فأخبَرَه أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سيَكتُبُ لابنِ عبَّاسٍ ألَّا يُفتيَ مِثلَ هذه الفَتْوى، وسيُراجِعُه فيها ويُبيِّنُ له الحقَّ وينصَحُ له، ثمَّ رَوى أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه مُستَنَدَه ودَليلَه في تَحريمِ رِبا التَّفاضُلِ والزِّيادةِ، فأقسَمَ وقال: «فَواللهِ، لقدْ جَاءَ بعضُ فِتيانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» وهمُ الخدَمُ «بتَمْرٍ فأنْكَرَهُ» النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ هذا ليس منَ التَّمرِ الَّذي تُنتِجُه أرضُهم، وليسَ هو المعروفَ عِندَهم، فقِيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ تَمْرَ المدينةِ هذا العامَ كان رَديئًا، فأخَذَ الخادمُ بعضَ التَّمرِ الرَّديءَ واستَبدَلَه بغَيرِه، وجاء بهذا التَّمرِ الطَّيِّبِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُقابِلَ التَّمرِ المَعيبِ، وَزادَ للمُشتَري في مِكيالِ وقَدرِ المَعيبِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَضْعَفْتَ! أَرْبَيْتَ! لا تَقْرَبَنَّ هذا»، أي: ما ضَاعَفْتَه في الكَيْلِ، وأَتَيْتَ به هو مِنَ الرِّبا، فنَهاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأكُلَ مِن هذا التَّمرِ الَّذي أَتاهُ به، ثُمَّ علَّمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «إذا رابَكَ مِن تَمرِكَ شَيءٌ، فَبِعْهُ، ثمَّ اشْترِ الَّذي تُريدُ مِنَ التَّمرِ»، والرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَنَهاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُؤْخَذَ تمْرٌ بتَمْرٍ، فإذا ما عابَ تمْرَهُ عَيْبٌ، فلْيَبِعْهُ أَوَّلًا بالمالِ، ثمَّ ليَشْتَرِ بالمالِ ما يُريدُ مِن أنْواعِ التَّمرِ، ولا يحدُثُ تَفاضُلٌ بينَ التَّمرَينِ.
والظَّاهرُ أنَّ فُتْيا ابنِ عبَّاسٍ بالجَوازِ كانتْ أخْذًا بظاهِرِ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الصَّحيحَينِ: «إنَّما الرِّبا في النَّسيئةِ»، فإنَّ هذا اللَّفظَ ظاهِرُه الحَصرُ، فكأنَّه قال: لا رِبا إلَّا في النَّسيئةِ، ولكنْ ورَدَ في صَحيحِ مُسلمٍ ما يُفيدُ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رجَعَ عن فُتْياه بذلك؛ فقد رَوى أبو الصَّهباءِ: «أنَّه سألَ ابنَ عبَّاسٍ عنه بمكَّةَ، فكَرِهَه»، أي: كَرِهَ جوازَ التَّفاضُلِ في الصَّرفِ.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن رِبا الفَضلِ.
وفيه: أنَّ صَفقةَ الرِّبا لا تَصِحُّ.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ الأحْكامَ الشَّرعيةَ لا تُطلَبُ إلَّا منَ الكتابِ، أوِ السُّنَّةِ.
وفيه: تَصويبُ الصَّحابةِ لبَعضِهمُ البعضَ فيما أخْطَؤوا فيه.