مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 20
حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير
عن الحارث بن معاوية الكندي، أنه ركب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ثلاث خلال، قال: فقدم المدينة، فسأله عمر: ما أقدمك؟ قال: لأسألك عن ثلاث خلال، قال: وما هن؟ قال: ربما كنت أنا والمرأة في بناء ضيق، فتحضر الصلاة، فإن صليت أنا وهي، كانت بحذائي، وإن صلت خلفي، خرجت من البناء، فقال عمر: تستر بينك وبينها بثوب، ثم تصلي بحذائك إن شئت.
وعن الركعتين بعد العصر، فقال: نهاني عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وعن القصص، فإنهم أرادوني على القصص، فقال: ما شئت، كأنه كره أن يمنعه، قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك، قال: أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع، حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك (1)
في هذا الأثَرِ يَرْوي الحارِثُ بنُ مُعاويةَ الكِنْديُّ -مُختَلَفٌ في صُحْبتِه- أنَّه سافَر إلى المَدينةِ ليُقابِلَ أميرَ المؤمِنينَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه ويَسألَه عن ثَلاثةِ أُمورٍ استَشكَلَها، فقَدِم عليه المَدينةَ، ولَقيَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه وأخبَرَه بسبَبِ مَجيئِه، وسَأَلَه عنِ المَسائلِ الثَّلاثِ الَّتي أرادَ إجاباتِها، وأوَّلُها: أنَّه سَأَل عن صَلاتِه وصَلاةِ زَوجتِه في جَماعةٍ إذا كانوا في خَيمةٍ واحِدةٍ، أو بَيتٍ واحدٍ، والمَكانُ ضيِّقٌ، فإمَّا أنْ تكونَ زَوجتُه بجِوارِه وعلى مَقرُبةٍ منه، وإمَّا أنْ يَخرُجَ أحدُهما مِن البِناءِ إذا كانتْ خلْفَه،
وفي رِوايةِ البَيْهَقيِّ: «فإنْ خرَجْتُ قرَرْتُ، وإنْ خَرجَتِ امْرأتي قرَّتْ»، أي: أصابَ أحَدَهما البَردُ، فاستَوضَحَ مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه: كيف يَصنَعُ في تلك الحالِ؟ فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: «تَستُرُ بيْنكَ وبيْنها بثَوبٍ»، فيكونُ عازلًا بيْنكما، «ثمَّ تُصلِّي المَرأةُ بجِوارِكَ» في الصَّفِّ غيرَ مُلتَصِقةٍ بكَ.
والسُّؤالُ الثَّاني عن رَكعَتَيِ النَّافِلةِ والتَّطوُّعِ بعْدَ العَصرِ، وما حُكمُ صَلاتِهما؟ فأخبَرَه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهاهُ عن تلك الرَّكعَتَينِ.
والسُّؤالُ الثَّالثُ عن حُكمِ القَصصِ، بأنْ يقُصَّ الرَّجُلُ على النَّاسِ المَواعظَ والعِبَرَ مِن مَواقفِ الأيَّامِ، وتاريخِ الأُممِ السَّابِقةِ، وذلك مِن رَغبةِ النَّاسِ وحثِّهم له أنْ يَقُصَّ عليهم،
فقال له عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: «ما شِئتَ»، وظاهِرُه أنَّه على الخِيارِ؛ إنْ شاء قصَّ عليهم، وإنْ شاء ترَكَ.
ثمَّ أخبَرَ الرَّاوي أنَّ إجابةَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه بتلك الجُملةِ كانتْ لكَراهةٍ منه أنْ يَنْهاهُ عنِ القَصصِ، خاصَّةً وأنَّ تلك المَسألةَ ليس فيها شَيءٌ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عِلمِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، ولكنَّ الحارِثَ بنَ مُعاويةَ أوضَحَ لعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه يُريدُ أنْ يَأخُذَ منه الرَّأيَ الصَّحيحَ في ذلك، والنَّصيحةَ الخالِصةَ؛ ليقِفَ عندَ رَأيِه وقَولِه، فنصَحَه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ الَّذي يَميلُ إليه تَركُ القَصصِ؛ لأنَّه يَخْشى عليه أنْ يقُصَّ على النَّاسِ أوَّلًا، ثمَّ يَشعُرَ بالرِّفْعةِ والتَّكبُّرِ في نفْسِه، ثمَّ يقُصَّ مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، فيَزدادَ إعجابُه بنفْسِه وتَكبُّرُه حتَّى يُخيَّلَ إليه أنَّه فوقَ النَّاسِ،
وأنَّ مَنزلتَه فيهم كأنَّه النَّجمُ العالي وهمْ أسفَلُ منه، فيُصيبُه غضَبٌ مِنَ اللهِ سُبحانَه بسبَبِ هذا الكِبرِ، فيَضَعُه اللهُ تحتَ أقْدامِ النَّاسِ يومَ القيامةِ بقَدرِ إعْجابِه بنفْسِه.
وفي هذا تَحذيرٌ للوُعَّاظِ والدُّعاةِ ونَحوِهم مِن أنْ تَعلوَ أنفُسُهم فوقَ مَن يَقصِدونَهم بوَعظِهم.