باب الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم31
سنن الترمذى
حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري البصري قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا كثير بن فائد قال: حدثنا سعيد بن عبيد، قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني، يقول: حدثنا أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ": هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وفي هذا الحديثِ يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "قال اللهُ تباركَ وتعالى" في الحديثِ القدسيِّ: يا ابنَ آدمَ، "إنَّكَ ما دعوْتَني ورجوْتَني"، أي: ما دمْتَ تدْعونِي وتَرْجو رَحْمتي، ولمْ تَقْنَطْ "غفَرْتُ لكَ"، أي: محَوتُ ذنبَكَ أيُّها العبْدُ الدَّاعي الرَّاجي لربِّه، "على ما كانَ فيكَ" مِنَ الذُّنوبِ والمعاصِي، "ولا أُبالي"، أي: ولا أهتَمُّ بهذه الذُّنوبِ والمعاصِي وإنْ كانَت منَ الكبائرِ وفي عدَمِ مُبالاتِه معنى قولِه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، يا ابنَ آدمَ "لو بلغَتْ"، أي: وصلَتْ، "ذنوبُك" الَّتي ارتكبتَها وفعَلتَها، "عَنانَ السَّماءِ"، أي: السَّحابَ، أو بمَعنى صَفائِحِ السَّماءِ وما اعتَرَض مِن أقطارِها، ولعلَّه المرادُ مِن الحديثِ؛ إذ رُوي: "أعنانَ السَّماءِ" أي: وصلَتِ الذُّنوبُ إلى السَّماءِ الَّتي تَراها، "ثمَّ" بعدَ ذلك، "استَغفرتَني"، أي: طلَبتَ المغفِرةَ منِّي، "غَفَرتُ لك" هذه الذُّنوبَ والمعاصِيَ، "ولا أُبالي" بهذه الذُّنوبِ والمعاصي وإنْ كانتْ مِن الكبائرِ، والمعنى: أنَّه لو كَثُرَت ذُنوبُك كثرةً تَملَأُ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ بحيث تَبلُغُ أقطارَها وتَعُمَّ نَواحِيَها, ثمَّ استَغفَرتَني, غَفَرتُ لك جميعَها غيرَ مُبالٍ بكَثرتِها؛ فإنَّ استِدْعاءَ الاستغفارِ للمغفرةِ يَستوي فيه القليلُ والكثيرُ, والجليلُ والحقيرُ.
"يا ابنَ آدمَ، إنَّك لو أتيتَني"، أي: بعدَ الموتِ، "بِقُرابِ"، أي: بمِلْءِ الأرضِ، "خَطايا"، أي: ذُنوبًا ومَعاصِيَ، "ثمَّ لَقيتَني"، أي: بعدَ الموتِ مُوحِّدًا "لا تُشرِكُ بي شيئًا"، لا في الرُّبوبيَّةِ، ولا في الألوهيَّةِ، ولا في الأسماءِ والصِّفاتِ، "لأَتيتُك"، أي: قابَلتُ هذه الذُّنوبَ والْمعاصِيَ، "بقُرابها"، أي: بمِلْئِها، "مَغفِرةً"؛ لأنَّني واسِعُ المغفرةِ، وأغفِرُ كلَّ شيءٍ دونَ الشِّركِ؛ كما قال سبْحانَه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 97].
وقال العُلماءُ: إنَّ غُفرانَ الكبائرِ للمُؤمِنين يَحتاجُ إلى توبةٍ، أو إنَّ أمْرَها بيَدِ اللهِ سبحانه، إنْ شاء عَفا عَنها وإن شاء عاقَب عليها، وكذلك حُقوقُ الخَلقِ؛ فإنَّه لا بدَّ مِن رَدِّها، أو يُجازي اللهُ بفَضلِه صاحبَ الحقِّ ويَعْفو بكَرَمِه عن المذنِبِ فيها.
وفي الحديثِ: فضلُ التَّوحيدِ، وأنَّ اللهَ يَغفِرُ للمُوحِّدين الذُّنوب والمعاصي.
وفيه: سَعَةُ رحمةِ اللهِ تَعالى ومغفرتِه وفَضلِه.
وفيه: خُطورةُ الشِّركِ والتَّحذيرُ منه.