باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم 3

سنن ابن ماجه

باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم 3

حدثنا القاسم بن محمد بن عباد بن عباد المهلبي، حدثنا عبد الله ابن داود، حدثنا سفيان، قال:
حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر من المدينة، وقرن مع حجته عمرة، واجتمع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به علي مائة بدنة، منها جمل لأبي جهل  في أنفه برة من فضة، فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثا وستين، ونحر علي ما غبر. قيل له: من ذكره؟ قال: جعفر، عن أبيه، عن جابر، وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس (1)

قوله " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم " قيل " : هو محمول على التمتع اللغوي وهو الانتفاع . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا عند قوم ، والقران فيه تمتع وزيادة - إذ فيه إسقاط أحد العملين ، وأحد الميقاتين - سمي تمتعا على هذا ، باعتبار الوضع اللغوي . وقد يحمل قوله " تمتع " على الأمر بذلك ، كما قيل بمثل هذا في حجة [ ص: 460 ] النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلفت الأحاديث ، وأريد الجمع بينها ، ويدل على هذا التأويل المحتمل : ما ذكرناه ، وأن ابن عمر - راوي هذا الحديث - هو الذي روى " أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد " .

وقوله " وساق الهدي " فيه دليل على استحباب سوق الهدي من الأماكن البعيدة . وقوله " فبدأ فأهل بالعمرة ثم بالحج " نص في الإهلال بهما .

ولما ذهب بعض الناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قارن - بمعنى أنه أحرم بهما معا - احتاج إلى تأويل قوله " أهل بالعمرة ثم بالحج " فإنه على خلاف اختياره . فيجعل الإهلال في قوله : أهل بالعمرة ثم بالحج " على رفع الصوت بالتلبية ويكون قد قدم فيها لفظ الإحرام بالعمرة على لفظه بالحج . ولا يراد به تقديم الإحرام بالعمرة على الإحرام بالحج ; لأنه خلاف ما رواه واعلم أنه لا نحتاج الجمع بين الأحاديث إلى ارتكاب كون " القران " بمعنى : تقديم الإحرام بالحج على الإحرام بالعمرة . فإنه يمكن الجمع ، وإن كان قد وقع الإحرام بالعمرة أولا . فالتأويل الذي ذكره على الوجه الذي ذكره : غير محتاج إليه في طريق الجمع .

وقوله " فتمتع الناس إلى آخره " حمل على التمتع اللغوي . فإنهم لم يكونوا متمتعين بمعنى التمتع المشهور ، فإنهم لم يحرموا بالعمرة ابتداء . وإنما تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة على ما جاء في الأحاديث . فقد استعمل " التمتع " في معناه اللغوي ، أو يكونون تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة ، كمن أحرم بالعمرة ابتداء . نظرا إلى المآل . ثم إنهم أحرموا بالحج بعد ذلك ، فكانوا متمتعين . وقوله صلى الله عليه وسلم " من كان منكم قد أهدى - إلى آخره " موافق لقوله تعالى { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } .

وقوله " فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة " دليل على طلب هذا الطواف في الابتداء .

وقوله " فليقصر " أي من شعره . وهو التقصير في العمرة عند التحلل منها . قيل : وإنما لم يأمره بالحلق حتى يبقى على الرأس ما يحلقه في الحج فإن الحلاق في الحج أفضل من الحلاق في العمرة . كما ذكر بعضهم . واستدل بالأمر [ ص: 461 ] في قوله " فليحلق " على أن الحلاق نسك . وقيل : في قوله " فليحلل " إن المراد به : يصير حلالا . إذ لا يحتاج بعد فعل أفعال العمرة ، والحلاق فيها : إلى تجديد فعل آخر . ويحتمل عندي أن يكون المراد بالأمر بالإحلال : هو فعل ما كان حراما عليه في حال الإحرام من جهة الإحرام ، ويكون الأمر للإباحة .

وقوله " فمن لم يجد الهدي " يقتضي تعلق الرجوع إلى الصوم عن الهدي بعدم وجدانه حينئذ ، وإن كان قادرا عليه في بلده ; لأن صيامه ثلاثة أيام في الحج إذا عدم الهدي يقتضي الاكتفاء بهذا البدل في الحال ، لقوله " ثلاثة أيام في الحج " وأيام الحج محصورة ، فلا يمكن أن يصوم في الحج إلا إذا كان قادرا على الصوم في الحال ، عاجزا عن الهدي في الحال ، وذلك ما أردناه .
[ ص: 462 ] ثم خب ثلاثة أطواف " دليل على استحباب الخبب وهو الرمل في طواف القدوم .

وقوله " ثلاثة أطواف " يدل على تعميم هذه الثلاثة بالخبب ، على خلاف ما تقدم من حديث ابن عباس ، وقد ذكرنا ما فيه .

وقوله " عند المقام ركعتين " دليل على استحباب أن تكون ركعتا الطواف عند المقام . و " طوافه بين الصفا والمروة " عقيب طواف القدوم : دليل على مشروعية ذلك على هذا الوجه ، واستحباب أن يكون السعي عقيب طواف القدوم . وقد قال بعض الفقهاء : إنه يشترط في السعي : أن يكون عقيب طواف كيف كان . وقال بعضهم : لا بد أن يكون عقيب طواف واجب . وهذا القائل يرى أن طواف القدوم واجب ، وإن لم يكن ركنا .

وقوله " ثم لم يحلل . .. إلخ " امتثالا لقوله تعالى { حتى يبلغ الهدي محله } ودليل على أن ذلك حكم القارن .

وقوله " وفعل مثل ما فعل من ساق الهدي " يبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ساق الهدي في حديث آخر بأن " لا يحل منها حتى يحل منهما جميعا " .