باب ذكر القبر والبلى3
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله. فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله.
ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفا، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله" (1)
لقد بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُمَّتِه أحوالَ النَّاسِ في الدُّنيا وبعدَ الموتِ في القبرِ، وفي العُقبى والحشرِ، ووضَّحَ لهم جَزاءَ المُؤمنِ والكافرِ؛ فتَرَكَ الجميعَ على المَحجَّةِ البيضاءِ.
وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ أبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إنَّ الميِّتَ" اللَّامُ للجنسِ، أي: أيَّ ميِّتٍ وكلَّ ميِّتٍ، "يَصيرُ إلى القبرِ"أي: يستقَرُّ فيه، "فيُجْلَسُ الرَّجلُ الصَّالحُ" أي: الذي كانَ قدْ صلَحَ في دُنياه وعمِلَ بأعمالِ البِرِّ مَخافةَ آخرتِه، "في قَبرِه غيرَ فَزِعٍ"، أي: غيرَ خائفٍ، "ولا مَشعوفٍ" من الشَّعفِ، وهو شِدَّةُ الفَزعِ الَّذي يُذْهِبُ بالقَلبِ، والمعنى: أنَّه بعدَمَا يُدفَنُ ويَستقرُّ في قبرِه يَكُونُ في أمْنٍ واطْمِئنانٍ بِفَضلْ اللَّهِ تعالى عَليهِ، "ثمَّ يُقال له"، أي: يسأَلُه الملائكةُ المُوَكَّلةُ بحِسابِه، وهم مُنكرٌ ونَكيرٌ، كما ثَبَتَ ذلك في أحاديثَ أُخرى، "فِيمَ كنْتَ؟"، أي: في أيِّ دِينٍ عِشْتَ، "فيقولُ: كنْتُ في الإسلامِ" وهذا يدُلُّ على غايةِ تمكُّنِه من الجَوابِ بَتوفيقِ اللهِ له، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، "فيُقال له: ما هذا الرَّجلُ؟"، أي: يقصِدونَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: ما وصْفُه، وما اعتقادُك فيه؟ "فيقولُ: مُحمَّدٌ"، أي: صاحِبُ هذا الاسمِ المُفخَّمِ المشهورُ، ثمَّ وصَفَه بقولِه: "رسولُ اللهِ، جاءنا بالبيِّناتِ من عندِ اللهِ"، أي: جاءنا بالآياتِ الظَّاهراتِ، أو المُعجزاتِ الباهِراتِ من عندِ اللهِ، "فصدَّقَناه"، أي: آمنَّا به وبجَميعِ ما جاء من عندِ اللهِ.
"فيُقال له: هل رأيْتَ اللهَ؟" قيل: نشَأَ هذا السُّؤالُ من قولِه: "من عندِ اللهِ"، أي: كيف تقولُ: من عندِ اللهِ؟ فهل رأيْتَ اللهَ في الدُّنيا؟ "فيقولُ: ما يَنْبغي"، أي: لا يُمكِنُ "لأحدٍ أنْ يَرى اللهَ"، أي: يَبصُرُه ببَصرِه في الدُّنيا أو يُحيطُ بكُنْهِه مُطلقًا، ولكنَّ الإيمانَ الصَّادقَ يَقومُ مَقامَ الرُّؤْيَةِ، ويحصُل بِه عِلْمُ اليَقينِ، "فيُفْرَجُ له فُرجةٌ"، أي: تكشِفُ له الملائكةُ ويَفْتحون له فَتحةً في القبرِ، "قِبَلَ النَّارِ"، أي: جِهتَها، فتُرْفَعُ الحُجبُ بينه وبينها حتَّى يَراها، فينظُرُ هذا الميِّتُ الصَّالحُ، "إليها يَحطِمُ بعضُها بعضًا"، وهذا بيانٌ لشِدَّةِ تلهُّبِها وكَثرةِ وَقودِها، وما فيها من العذابِ والنَّارِ، "فيُقال له: انظُرْ إلى ما وقاكَ اللهُ"، أي: حفِظَك بحفْظِه تعالى إيَّاك من الكُفرِ والمعاصي الَّتي تجُرُّ إلى النَّارِ، وكان هذا مكانَك الَّذي كنْتَ ستدخُلُه لو كنْتَ غيرَ مُؤمنٍ وغيرَ صالحٍ، "ثمَّ يُفْرَجُ له فُرْجةٌ قِبَلَ الجنَّةِ"، أي: تُفتَحُ له فَتحةٌ جِهةَ الجنَّةِ لِيراهَا، وقيل: في تَقديمِ فُرجةِ النَّارِ؛ لأنَّ المَسرَّةَ بعدَ المَضرَّةِ أنفَعُ، وتكونُ في النَّفْسِ أوقَعَ، "فينظُرُ إلى زَهرتِها"، أي: حُسْنِها وبَهجتِها، "وما فيها" من النَّعيمِ؛ مثلُ الحورِ والقُصورِ وغيرِها من الخيرِ الكثيرِ "فيُقال له: هذا مَقعدُك"، أي: في الجَنَّةِ، "ويُقال له: على اليقينِ كنْتَ وعليه مُتَّ، وعليه تُبْعَثُ"، يعني: مُتَّ على ما كُنتَ عليه تعيشُ- حيثُ كنْتَ في الدُّنيا على اليقينِ في أمْرِ الدِّينِ- وكما مُتَّ ستُبْعَثُ وتُحْشَرُ، "إنْ شاء اللهُ تعالى"، وهذا الاستثناءُ للتَّبرُّكِ أو للتَّحقيقِ، كما قال يوسفُ عليه السَّلامُ لإخوتِه: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].
ثمَّ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ويُجْلَسُ الرَّجلُ السُّوءُ"، أي: ذو الصِّفةِ السَّيِّئةِ، وهو ضِدُّ الصَّالحِ، "في قَبْرِه فَزِعًا"، أي: خائفًا غايةَ الفزَعِ، "مَشعوفًا"، أي: مَرعوبًا مخلوعَ القَلْبِ، فيُقال لهذا الرَّجلِ السُّوءِ من قِبَلِ الملائكةِ الموكلةِ بحسابِه: "فِيمَ كنْتَ؟"، أي: فِيمَ كنْتَ عليه من أمْرِ الدِّينِ؟ "فيقولُ: لا أدري"، أي: لا أعلَمُ ما الدِّينُ، وهَذَا مِن أثَرِ الهَيبةِ والخوفِ والرُّعبِ فنَسِيَ دِينَه، وَلَم يُوفِّقْهُ اللَّهُ لِلجَوابِ كَمَا أخْبَرَ بذلك في كتابِه الكريمِ بقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. وقيل: هذا تَمويهٌ منه عن أنْ يُجيبَ بالجوابِ المُطابِقِ؛ وهو أنَّه كان في الكُفرِ أو النِّفاقِ، وهذا كلامُ الرَّجُلِ المَدهوشِ المُتحيِّرِ الَّذي لا يَدْري الجوابَ. "فيقالُ له: ما هذا الرَّجلُ؟"، أي: الرَّجلُ المشهورُ المعروفُ أمْرُه الَّذي رأيْتَه أو سمِعْتَ عَنْه، "فيقولُ: سمِعْتُ النَّاسَ"، أي: المُؤمنينَ، أو الكُفَّارَ، أو أعَمَّ منهما مِن أهْلِ زَمانِه، "يقولون"، أي: يقولونَ في حَقِّه، "قولًا" بالحقِّ أو بالباطلِ على زَعْمِه، "فقُلْتُه"، أي: قُلْتُه مِثْلَهُم تَقليدًا لا تَحقيقًا واعتقادًا، "فيُفْرَجُ له"، أي: يُفْتَحُ له فَتحةٌ، "قِبَلَ الجنَّةِ"، أي: جِهةَ الجنَّةِ، وذلك قبْلَ أنْ تُفْتَحُ له فَتحةٌ جِهةَ النَّارِ؛ لتكونَ أشَدَّ نَكالًا في نفْسِه وأوقَعَ، "فينظُرُ إلى زَهرتِها وما فيها"، أي: إلى حُسْنِها وبَهائِها وزِينتِها والنعيمِ الذي فيها؛ ليَتحسَّر على فواتِه كما كان ينظُرُ في الدُّنيا إلى الآياتِ التي أوْدَعها اللهُ تعالى في الأنفُسِ والآفاقِ مِن غيرِ أنْ ينتفِعَ بها، "فيُقال له: انظُرْ إلى ما صرَفَ اللهُ عنك" حيثُ خذَلَك ولم يَهْدِكَ ولم يُوفِّقْك إلى ما يدخِلُك الجنَّةَ، فاختَرْتَ من الأعمالِ والأوزارِ ما يُفْضي إلى النَّارِ، "ثمَّ يُفْرَجُ فُرجةٌ إلى النَّارِ، فينظُرُ إليها يحطِمُ بعضُها بعضًا"، وهذا بيانٌ لشِدَّةِ تلهُّبِها وكَثرةِ وَقودِها، وما فيها من العذابِ والنَّارِ "فيُقال له: هذا مَقعدُك"، أي: مكانُك اللَّازِمُ ومَحلُّك الدَّائمُ، ثُم ذَكَروا له سَببَ ذلك العذابِ "على الشَّكِّ كنْتَ"، أي: كنتَ في شكٍّ مِن الإيمانِ بالنَّعيمِ والعذابِ، وهذا خِلافُ الْيقَينِ اللائقِ بالإنسانِ، "وعليه مُتَّ، وعليه تُبْعَثُ إنْ شاء اللهُ تَعالى"، والكلُّ بقَضاءِ اللهِ تعالى وقدَرِه، وهذا مِن عَدلِ اللهِ تعالى بين عِبادِه؛ أنَّ مَن عاشَ على أمْرٍ ودَاوَمَ عليه، ماتَ عليه، وبُعِثَ عَليه، وحُوسِبَ عليه؛ جَزاءً وِفاقًا ولا يَظلِمُ ربُّك أحدًا.
وفي الحديثِ: بيانُ أحوالِ المُؤمنينَ والكافِرينَ في القبرِ، وتقديمُ البُشرى للمُؤمنِ، والإهانةِ للكافرِ.
وفيه: الحثُّ على العملِ الصَّالحِ في الدُّنيا، مع الاستعانةِ باللهِ وطلَبِ تَوفيقِه.
وفيه: إثباتُ سُؤالِ القَبرِ.