حديث أبي موسى الأشعري 53
مستند احمد
حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا موسى بن أعين، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن رجل، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة»
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعلِّمُ أصْحابَه فَضائلَ الأعْمالِ الَّتي تَكونُ سَببًا في دُخولِ الجنَّةِ
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أبو موسى عبدُ اللهِ بنُ قَيسٍ الأشْعَريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سأَله: ألَا أُحدِّثُكَ بأمرَينِ، أو خَصلَتَينِ، مَن فعَلَهما دخَل الجنَّةَ؟ وهذا عَرضٌ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، المَقصودُ منه جَذبُ انْتِباهِ أبي موسى ومَن معَه، وعلى الفَورِ، فقد طلَبوا منه أنْ يُخبِرَهم بتلك الخَصلَتَينِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يَحفَظُ الرَّجلُ ما بينَ فكَّيْه، وما بينَ رِجلَيْه»، والمُرادُ: أنْ يَحفَظَ الإنْسانُ اللِّسانَ؛ لأنَّه يقَعُ بينَ اللَّحيَيْنِ، وهما العَظْمانِ في جَانِبَيِ الفَمِ، فيَجتَنِبَ كلَّ ما حُرِّمَ فِعلُه باللِّسانِ كالغِيبةِ، والنَّمِيمةِ، والسَّبِّ، والقَذفِ، وما شابَهَه، ويَفعَلُ ما يجِبُ عليه من ذِكرٍ، وأمرٍ بمَعروفٍ، ونَهيٍ عن مُنكَرٍ، وكذلك يَحفَظُ فَرْجَه، فلا يُصيبُ به حَرامًا، فيَتجنَّبُ الزِّنا والفَواحِشَ
ولمَّا سَمِع أبو موسى ذلك هو وصاحِباهُ شَعَروا بأنَّ هاتَينِ الخَصْلَتَينِ شَديدَتانِ على المُسلِمِ، فكيْف يَستَطيعُ المَرءُ أنْ يَحفَظَ لسانَه فلا يَتكلَّمُ إلَّا بخَيرٍ؟! فرَجَعوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذكَروا له ما شَعَروا به مِن صُعوبةِ هاتينِ الخَصلَتَين، فأخبَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسِتِّ أُمورٍ أُخْرى يُمكِنُ أنْ تَكونَ بَديلةً للخَصلَتَينِ السَّابِقَتَينِ، ومَن فعَل هذه السِّتَّ خِصالٍ دخَل الجنَّةَ، وهذه الخِصالُ والأعْمالُ هي
أوَّلًا: عَدمُ الإشْراكِ باللهِ، والاستِمْرارُ على التَّوْحيدِ الخالِصِ مِنَ الشِّركِ، وإفْرادُ اللهِ تعالى بالعِبادةِ
وثانيًا: عَدمُ الوُقوعِ في فاحِشةِ الزِّنا؛ لأنَّ الإسْلامَ يَحْمي أعْراضَ النَّاسِ وأنْسَابَهم
وثالثًا: عَدمُ الإتْيانِ ببُهْتانٍ مُفتَرًى بيْنَ الأيْدي والأرجُلِ، والافْتِراءُ هو الاخْتِلاقُ والكَذِبُ، والمَعنى: ألَّا يَبْهَتَ المُسلِمُ النَّاسَ افْتراءً واخْتِلاقًا بما لم يَعلَمْه منهم، فيَجْني عليهم مِن قِبَلِ نفْسِه بكَذبٍ، والنَّاسُ بُرآءُ ممَّا افْتَراه عليهم، واليَدُ والرِّجلُ كِنايةٌ عنِ الذَّاتِ، وقيلَ: نسَب الافْتِراءَ إلى اليَدِ والرِّجلِ بسَبَبِ أنَّ مُعظَمَ الأفْعالِ تقَعُ بهما، وإنْ شارَكَهما سائِرُ الأعْضاءِ
ثمَّ أتمَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الآيةَ كلَّها، وهو قولُ اللهِ تعالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]
فالعَملُ الرَّابِعُ في الآيةِ هو عَدمُ العِصْيانِ في المَعروفِ، والعِصيانُ خِلافُ الطَّاعةِ، والمَعروفُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما عُرِفَ مِن طاعةِ اللهِ تعالَى، والإحْسانِ إلى النَّاسِ
والخامِسُ: عَدمُ قَتْلِ الأوْلادِ؛ لأنَّ ذلك قَتْلٌ وقَطيعةُ رَحِمٍ، ولأنَّهم كانوا في الأغلَبِ يَقتُلونَ أوْلادَهم خَشيةَ الفَقرِ، فنَهاهم عن ذلك
وسادسًا: عَدمُ السَّرِقةِ؛ لأنَّ الإسْلامَ جاءَ لحِمايةِ الأمْوالِ
والمَعنى: أنَّ مَن ثبَت على الطَّاعاتِ، ولم يَرتَكِبْ مَعْصيةً مِن هذه المَعاصي الَّتي نُهيَ عنها؛ فثَوابُه مُحقَّقٌ، وسيَجِدُه يَومَ القيامةِ عندَ رَبِّه في جنَّاتِ النَّعيمِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعادَ
فلمَّا سَمِع أبو مُوسى رَضِي اللهُ عنه ومَن معَه هذه الأعْمالَ السِّتَّةَ؛ كانت أشدَّ عليهم مِن المَرةِ الأُولى الَّتي أُمِروا فيها بخَصلَتَينِ فقطْ، وهذا مِن بابِ الخَوفِ، وليْس مِن بابِ اعْتِراضِهم على قوْلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّهم كانوا يَخافونَ ألَّا يَستَطيعوا فِعلَ ما أرْشَدَهم إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفي الحَديثِ: أنَّ وَفاءَ المُسلِمِ بأحْكامِ الشَّرعِ يُدخِلُه الجَنَّةَ بفَضلِ اللهِ ورَحمَتِه