باب ما يكون من الفتن1

سنن ابن ماجه

باب ما يكون من الفتن1

حدثنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، أنه حدثهم عن أبي قلابة الجرمي عبد الله ابن زيد، عن أبي أسماء الرحبي  عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطيت الكنزين: الأصفر - أو الأحمر - والأبيض- يعني الذهب والفضة-، وقيل: إن ملكك إلى حيث زوي لك، وإني سألت الله عز وجل ثلاثا: أن لا يسلط على أمتي جوعا فيهلكهم به عامة، وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وإنه قيل لي: إذا قضيت قضاء فلا مرد له، وإني لن أسلط على أمتك جوعا فيهلكهم، ولن أجمع عليهم من بين أقطارها حتى يفني بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا.
وإذا وضع السيف في أمتي فلن يرفع عنهم إلى يوم القيامة، وإن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين، وستعبد قبائل من أمتي الأوثان، وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وإن بين يدي الساعة دجالين كذابين، قريبا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبي، ولن تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل" (1)

كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحِبًّا لأُمَّتِه، وقد دعا لها كثيرًا، بل دعا اللهَ أنْ يجعَلَ دُعاءَه على أيِّ أحدٍ مِن أُمَّتِه رَحمةً له، ومِن كَمالِ شَفقتِه أنَّه دعا اللهَ وسأَلَه ألَّا يُهْلِكَ أُمَّتَه بالقَحطِ والجَدبِ، وألَّا يُهْلِكَهم عدُوٌّ مِن غيرِهم.
وفي هذا الحديثِ بيانٌ لبعضِ هذه المعاني، حيث يُخبرُ ثَوبانَ مَوْلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: "زُوِيَت لي الأرضُ"، أي: جُمِعَت، وقُرِّبَت وانضَمَّ بعضُها إلى بعضٍ، يُريدُ به تَقريبَ البعيدِ منها حتَّى اطَّلَعَ عليه كاطِّلاعَه على القريبِ منها، وحاصِلُه أنَّ اللهَ سُبحانَه قد طوى له الأرضَ ليعرِفَ ما بها، "حتَّى رأيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها. وأُعْطِيتُ الكَنزينِ الأصفرَ- أو الأحمرَ- والأبيضَ، يعني: الذَّهبَ والفِضَّةَوقيل: يُريدُ بالكَنزِ الأحمرِ: خزائنَ كِسرى؛ فإنَّ الغالبَ على نُقودِ ممالكَ كِسرى الذَّهبُ، وبالكَنزِ الأبيضِ: خزائنَ قَيصرَ؛ فإنَّ الغالبَ على نُقودِ الرُّومِ الدَّراهمُ، "وقيل لي"، أي: مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ، "إنَّ مُلْكَك إلى حيثُ زُوِيَ لكَ"، أي: سيبلُغُ الدِّينُ إلى حُدودِ ما رأيْتَه وما ضُمَّ لك من الأرضِ، وقد وقَعَ ذلك؛ فوصَلَ الإسلامُ من أقصى بَحرِ طَنْجةَ في الغربِ ومُنْتهى عِمارةِ المغربِ، إلى أقصى المشرقِ ممَّا وراء خُراسانَ والنَّهرِ وكثيرٍ من بلادِ الهندِ والسِّندِ، ولم يتَّسِعْ ذلك الاتِّساعَ من جِهةِ الجنوبِ والشَّمالِ الَّذي لم يذكُرْ عليه السَّلامُ أنَّه أُرِيَه، وأنَّ مُلْكَ أُمَّتِه سيبلُغُه.
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "وإنِّي سألْتُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ثلاثًا"، أي: دعوتُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أنْ بثلاثِ دَعواتٍ؛ الأُولى: "ألَّا يُسلِّطَ على أُمَّتي جُوعًا، فيُهلِكَهم به عامَّةً"، أي: بقَحطٍ شائعٍ لجميعِ بلادِ المُسلمينَ، فيَنتشِر فيهم الموتُ جوعًا. والثَّانيةُ ذُكِرَت في رِوايةِ مُسلمٍ، وفيها: "وألَّا يُسلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم، فيستبِيحَ بَيضتَهم"، أي: مُجتمعَهم وموضِعَ سُلطانِهم، ومُستَقرَّ دَعوتِهم، وبَيضةُ الدَّارِ أوسطُها ومُعظمُها، أراد عدُوًّا يستأصِلُهم ويُهلِكُهم جميعَهم، والثَّالثةُ: "وألَّا يَلْبِسَهم شِيَعًا ويُذيقَ بعضَهم بأسَ بعضٍ"، أي: ولا يجعَلَ المُسلمينَ فِرَقًا وأحزابًا يُحارِبُ بعضُهم بعضًا. ثمَّ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنَّه قِيلَ لي"، أي: مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ، "إذا قَضَيْتُ قَضاءً فلا مَرَدَّ له"، أي: فلا يرُدُّه شَيءٌ، بخِلافِ الحُكمِ المُعلَّقِ بشَرْطِ وُجودِ شَيءٍ أو عدَمِه، وهذا تَوطئةٌ وبَيانٌ لِمَا أجاب اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيه لنبِيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيما كان مِن قِبَلِ قَضائِه سُبحانَه الَّذي قُضِيَ الَّذي لا يُمْكِنُ إجابةُ الدَّعوةِ فيه، "وإنِّي لنْ أُسلِّطَ على أُمَّتِك جوعًا، فيُهلِكَهم فيه ولنْ أجمَعَ عليهم مِن بين أقطارِها حتَّى الَّذين هم بأطرافِ الأرضِ كلِّها، أو مَن هم بأطرافِ أرضِهم وبلادِهم، والمعنى: فلا يستبيحُ عدُوٌّ من الكفَّارِ بَيضتَهم، ولو اجتمَعُوا على مُحاربتِهم، وفي روايةِ مُسلمٍ: "وألَّا أُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم يستبيحُ بَيضتَهم، ولو اجتمَعَ عليهم مَن بأقطارِها - أو قال: مَن بين أقطارِها"، أي: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أجاب نبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدَّعوةِ الأُولى والثَّانيةِ، ولم يُجِبْه في الثَّالثةِ، الَّتي في قولِه: "حتَّى يُفْنِيَ بعضُهم بعضًا ويقتُلَ بعضُهم بعضًا"، أي: حتَّى يكونَ بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا، ويَسْبي ويأسِرُ بعضُهم بعضًا.
واللهُ تَعالى في خلْقِه قَضاءانِ: قضاءٌ مُعلَّقٌ بفعلٍ، وقَضاءٌ مُبرَمٌ؛ فالمُعلَّقُ كما يُقال: إنْ فعَلَ الشَّيءَ الفُلانيَّ كان كذا وكذا، وإنْ لم يفعَلْه فلا يكونُ كذا وكذا، مِن قَبِيلَ ما يتطرَّقُ إليه المحوُ والإثباتُ، كما قال تَعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وأمَّا القضاءُ المُبرَمُ فهو عِبارةٌ عمَّا قدَّرَه سُبحانَه في الأزلِ مِن غيرِ أنْ يُعلِّقَه بفعلٍ، فهو في نافذُ الوُقوعِ غايةَ النَّفاذِ بحيث لا يتغيَّرُ بحالٍ، ولا يتوقَّفُ على المَقْضِيِّ عليه ولا المَقْضِيِّ له؛ لأنَّه مِن عِلْمِه بما كان وما يكونُ، وخلافُ مَعلومِه مُستحيلٌ قَطعًا، وهذا من قِبَلِ ما لا يتطرَّقُ إليه المحوُ والإثباتُ، قال تعالى: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا مَرَدَّ لقَضائِه، ولا مَرَدَّ لحُكمِه"، فقولُه: "إذا قضَيْتُ قَضاءً فلا مرَدَّ له" مِن هذا القَبيلِ الذي هو القضاءُ المُبرمُ؛ ولذلك لم يُجَبِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إليه.
ثمَّ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإذا وُضِعَ السَّيفُ في أُمَّتِي فلنْ يُرْفَعَ عنهم إلى يومِ القيامةِ"، أي: إذا ظهَرَتِ الحربُ فيهم ستَبْقى إلى يومِ القِيامةِ، وقد وُضِعَ السَّيفُ بقَتلِ عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه، فلم يزَلْ إلى الآنَ، "إنَّ ممَّا أتخوَّفُ على أُمَّتي أئمَّةً مُضلِّينَ"، أي: داعينَ الخَلقَ إلى البِدعِ وغيرِها ممَّا لا يثبُتُ في أصلِ الدِّينِ، أو يقولونَ في الدِّينِ بأهوائِهم، "وستَعْبُدُ قبائلُ مِن أُمَّتي الأوثانَ"، أي: الأصنامَ، "وستَلْحَقُ قبائلُ مِن أُمَّتي بالمُشركينَ" سواءٌ باللِّحاقِ بهم في أرضِ الشِّركِ، أو باتِّباعِهم على ضَلالِهم وغَيِّهم وشِرْكِهم، "وإنَّ بين يدَيِ السَّاعةِ"، أي: عَلاماتٍ تكونُ قبْلَ قِيامِها، "دَجَّالينَ كذَّابينَ قريبًا مِن ثَلاثينَ، كلُّهم يزعُمُ أنَّه نَبيٌّ" أي: أنَّ الأصلَ والقصدَ في ادِّعائِهم للنُّبوَّةِ الدَّجلُ والكذِبُ على النَّاسِ، "ولنْ تزالَ طائفةٌ من أُمَّتي على الحقِّ مَنصورينَ لا يضُرُّهم مَن خالَفَهم"، أي: ستظَلُّ جماعةٌ من أُمَّةِ الإسلامِ يُجاهِدونَ في سبيلِ نُصرةِ الحقِّ، وهم مُنتصِرونَ وغالِبونَ، وسيظلُّونَ على هذه الحالِ إلى يَومِ القِيامةِ طائفةً بعد طائفةٍ، وهذا ممَّا يدُلُّ على أنَّ الحقَّ لا يَنقطِعُ في أُمَّةِ الإسلامِ؛ فهناك مَن يَتوارَثُه جِيلًا بعد جيلٍ، "حتَّى يأتِيَ أمرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ"، أي: الرِّيحُ الَّتي تَقْبِضُ نفْسَ كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ، ولا يَبقَى إلَّا شِرارُ الخَلقِ، وعليهم تقومُ الساعةُ.
وفي الحديثِ: عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وفيه: أنَّ الأنبياءَ مُستجابو الدَّعوةِ إلَّا فيما استثناه اللهُ وأبرَمَ قضاءَه.